حقيقة .. لا أمزح .. ولا اتفلسف .. الشقاء والتعب والكد نعم كبيرة جليلة لا يقدرها سوى من لم يجرب سوى الراحة والاتكالية والركون والسكون، ويكفي أن التعب يجعلك تضع رأسك على وسادتك ثم تدخل خلال ثواني معدودة إلى عالم ثاني يفصلك عن هذه الدنيا بكل تفاصيلها الكئيبة. وعن تجربة فإن عدم الحركة والانغلاق على النفس في المنزل يوريثان المرض والاكتئاب و..الأرق.. ويا لها من حالة تعكر الصفو وتحرق الأعصاب، ويحاول المصاب بها أن يغمض هاتين العينين فلا يستطيع.. فقد أقسم النوم، إلا أن يجافيها فلا يزورها إلا بعد عناء. وقد يسرح بك خيالك ويشطح .. عندما تبدأ متاعبك بعد دخولك مرحلة الشباب وتظل تحلم بالراحة التي ينتج عنها ..السعادة.. تلك الغاية التي يبحث عنها الجميع، وغالبا لا يهتدون إليها فيظلوا يدورا في دائرة مغلقة. فيحلم الشاب بالوظيفة الرائعة والدخل الوفير والزوجة الجميلة والأولاد المثاليون و..و..و..وكذلك الشابة تحلم بالتعليم الذي تريد، والوظيفة التي ترضي شقائها في التعليم، والزوج المثالي، والأولاد الذين لا يصفون إلا ب"السكر والعسل"، ولكن بعد الزواج لا تجد إلا المسئوليات والضغوط النفسية والعصبية، وهذه بالطبع حقيقة الحياة، فلا لذة فيها ولا سعادة إلا أن تكون وقتية وتتبخر وتختفي، وكذلك لا تكون هذه اللذة - سادة دون إضافات – لكنها دائما وأبدا تكون مغلفة بالشقاء والتعب. إذا نتفق أنه لا راحة خالصة في هذه الحياة ولا سعادة أبدية بالطبع سواء بخاطرك أو دون إرادتك، فقد خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان في شدة وتعب ("لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)" "البلد")... إنما نعيش "دنيا" أي سفلى .. فهي بكل زخارفها تمثل كل قليل ودنيء وحقير ليس إلا. ولعل ما يُحبط حقا.. أنه حتى من ظن نفسه سعيدا، تفاجئه نفسه وتمل السعادة والراحة - نعم هذه هي الطبيعة البشرية- ولا أجد أفضل من مثال بني إسرائيل وقد كرمهم الله - سبحانه وتعالى - بأن رفع عنهم التعب والكد في البحث عن الطعام فهذا المن وذاك السلوى، تتنزل عليهم من السماء، طعام بأمر إلهي، أكيد لا أفضل ولا أجمل ولا أطعم من ذلك، إنه طعام يتنزل عليهم من السمااااااء ...وكل المطلوب منهم أن يفتحوا أفواههم ليتناولوه فقط !! وكانوا هؤلاء لا يحملوا هم البحث عن رزق في اليوم التالي، فهو طعام لا ممنوع ولا مقطوع يأتيهم طازج يوميا، ولكن بماذا حدثتهم أنفسهم ؟.. حدثتهم بالملل .. نعم الملل من ماذا ؟!..من نعمة لم يظفر بها أحد من العالمين غيرهم، فأشتاقت أنفسهم الدنيئة للتعب، فطلبوا من سيدنا موسى عليه السلام، استبدال الذي هو أدني بالذي هو خير، كما قالت الآية الكريمة في سورة البقرة"إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى? لَن نَّصْبِرَ عَلَى? طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ? قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى? بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ? اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ? وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ? ذَ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ? ذَ?لِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)" ..وقد كان. في النهاية .. رضي الإنسان بشقائه أم لم يرضى فقد كتب عليه، وليعلم أن شقاءه مع صحته، خير ألف مرة من راحته مع سقمه .. فلا تبتئس من العمل ولا تلعن الشقاء ولا تكره حياتك التي لا يوجد بها راحة، فهذا قدرك وتلك حياتك فإن لم ترضى بها فسوف تزداد تعاسة وتنال غضب الرحمن، فروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) رواه الترمذي (2466) [email protected]