لم يحفظ التاريخ الإنسانى سيرة أكمل وأشمل وأكثر دقة وتفصيلا لنبي، أو منشئ لديانة كبرى فى العالم، كما حفظ سيرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم.. وهنا ندرك حكمة الله عز وجلّ الذى تولّى حفظ القرآن بنفسه ليصل إلينا كاملا، بلا تحريف فى كلمة واحدة منه.. كما ندرك حكمته فى أن تصل إلينا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته كاملة واضحة مشرقة.. والسبب هو أنه سبحانه وتعالى شاء أن تكون هذه آخر رسالة من السماء إلى الأرض، وأن يكون محمد آخر الأنبياء وخاتم الرسل؛ فحفظ الكتاب من التحريف كما حُرّفت كتب سابقة، وحفظه من الاندثار كما اندثرت كتب أخرى، نسمع عنها ولا نرى لها أثرا.. وهيأ لحفظ سيرة النبى وسنته آلافا من العلماء المخلصين، أفْنَوْا حياتهم فى دراستها وجمعها وتحقيقها وشرحها للناس، لتبقى شخصية النبى الخاتم هى الشخصية النموذجية المُثلى، التى تُحتذى إلى يوم القيامة.. فقد كان محمد فى حياته وخلقه قرآنا حيّا يمشى على الأرض.. لقد تعرض النبى فى حياته وبعد وفاته للافتراءات والأكاذيب والتضليل، لصرف الناس عنه وعن دينه وقرآنه وسنته.. ولكن ذهبت كل هذه المحاولات سُدى.. وبقى دين محمد راسخا شامخا رغم الأنواء، يزداد أنصاره وتتوسع رقعته. حتى عندما تخلّف المسلمون وغُلبوا على أمرهم وأصبحوا فى أضعف أحوالهم.. ظل الإسلام بإشعاعه الذاتى يجتذب إليه الناس، بينما تتقلص من حوله الأديان الأخرى، وتنحسر وينصرف عنها الأتباع.. تسأل لماذا؟ وأجيبك بالإشارة إلى حقيقتين بسيطتين: أولهما- أن الإسلام قد استطاع أن يقيم على الأرض حضارة فريدة وحُكما فريدا لأول مرة فى التاريخ على أسس من العدل والأخلاق والمساواة بين جميع البشر.. لم يسبقهما ولم يلحق بهما حكم أو حضارة تماثلهما حتى اليوم. وثانيهما- أن حياة النبى محمد صلى الله عليه وسلم نراها الآن أمامنا كتابًا مفتوحًا.. بعد 1435سنة من الزمن.. كأننا نشاهده فى شريط مسجل، من يوم مولده إلى يوم وفاته؛ فقد حرص أصحابه وتابعوهم على تسجيل سيرته، ونقلها إلينا كاملة مفصّلة.. ولم يحدث قط ولو لفترة قصيرة أن غاب النبى عن أعينهم.. ومن ثَمّ سجّلوا كل كلمة نطق بها نبيهم وكل حركة وإيماءة، ووثّقوا كل هذا وتحرّوا عنه وخلّفوا لنا من سيرته ما لا يطمع باحث فى المزيد عليه.. نعرف حياته قبل البعثة: فى طفولته وصباه وشبابه.. واشتغاله بالتجارة، و سلوكه.. وأصدقائه وزواجه.. وكيف اكتسب صفة الأمين بين قومه، والثقة التى تمتع بها بينهم.. ونعرف انقطاعه للتأمل فى غار حراء، وكيف نزل عليه الوحى لأول مرة.. ونعرف تفاصيل ماجرى بعد هذه الواقعة، حتى لحظة أن كّلفه الوحى بأن ينهض بدعوة الناس إلى دين الله.. وفى حياته بعد البعثة: نعرف كيف بدأ يدعو الناس إلى الإسلام، وكيف ووجِهَ بالمعارضة الشرسة فى مكة، وماذا حدث له فى الطائف، ونعرف تفاصيل إسرائه ومعراجه، وقصة هجرته إلى المدينة، وتفاصيل جهاده ومعاركه، ونعرف معاهدة الحديبية.. ووفوده التى بعث بها إلى ملوك وحكام البلاد المجاورة.. وما قاله بالحرف الواحد فى حجة الوداع.. واكتمال الوحي.. ثم وفاته. وباختصار لا شيء من حياته كلها غير معروف للعالم؛ فقد تم تسجيل كل شيء بدقة متناهية فى قلوب المؤمنين، وفى صحفهم وكتبهم التى بلغت اليوم ملايين الصفحات.. وهو شيء لم يحدث لأى نبى قبله على الإطلاق.. لم تُخف السيرة النبوية شيئا من أقوال الرسول وأفعاله، حتى طريقته فى الكلام والجلوس والنوم.. فعرفناه فى لباسه ومشيه.. وفى زواجه وأبنائه وأصحابه.. وفى صلواته بالمسجد.. وفى قيادته للجنود.. وعرفنا من عاداته ماذا كان يحب وماذا كره.. وعرفنا أخلاقه و فضائله وخصائصه مفصّلا مشروحا وموثّقا: دأبه ومثابرته.. وأدبه وحسن معاملته للناس.. وعدله وسخاءه وإيثاره وكرمه.. وبغضه للنكوص عن الوعد.. وتعفّفه أن تنال يده شيئا من الصدقات.. وقبوله الهدية من أناس بسطاء.. وكراهيته للعنف والتشدّد، والغيبة والنميمة، والتظاهر والرياء.. وازدراءه للتملق والنفاق. عرفناه متواضعًا بسيطا ينفر من الترف والتفاخر والتعالى على الناس.. وعرفنا شعوره الفائق بالمساواة بين جميع البشر.. نافرا من التبجيل المفرط حتى لا يتحول إلى نوع من العبادة.. فكان لا يفتأ يردد "ما أنا إلا بشر.. ما أنا إلا رسول" تقول السيرة: "دخل عليه رجل غريب فاختلجت أضلاعه وارتعدت مفاصله، واضطرب من شدة هيبته فى حضرة النبوة.. فاستدناه، ليقترب منه وربت بيده على كتفه فى حنان وهو يقول له: "هوّن عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة!" عرفنا من سيرته كيف كان حبه للفقراء، وشفقته على اليتامى، وزياراته للمرضى.. كما عرفنا حنوّه الأخّاذ على أطفاله وزوجاته.. واحترامه للنساء ورحمته بالحيوان.. وشفقته على الضعفاء والمحتاجين. ومع ما عرفنا من تجمّله بالصبر، والثبات والجلد فى الشدائد.. إلا أنه أبدًا لم يكن قاسيا، ولا متجهّما أو عبوسا؛ بل كان يتمتع بروح الفكاهة الرصينة والمرح.. فى هذه الشخصية المتوازنة الجامعة للفضائل لا يمكن أن ننسى كيف كان عادلا بل رحيما بمن ناصبه العداء من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان.. وحتى المنافقين، فقد كان العفو والمغفرة لمن أساء إليه أسبق إلى سجاياه من الغضب والانتقام.. انظر ماذا يقوله النضر ابن الحارث.. وكان واحدا من أعدى أعداء النبي، ينصح قومه باتباع أسلوب آخر فى محاربة محمد ودعوته، بدلا من اتهامه بالكذب والسحر والكهانة.. قال: "يا معشر قريش، إنه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، كان محمد فيكم غلاماً حَدَثًا، أرضاكم خلقاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب، وجاء بما جاءكم به قلتم: ساحر.. لا واللهِ ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وعُقَدهِمْ، وقلتم: كاهن.. لا واللهِ ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهنة وتخالُجِهِم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر.. لا واللهِ ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها.. وقلتم: مجنون.. لا واللهِ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنْقَةٍ، ولا وسوسةٍ، ولا تخليطة، يا معشر قريش، فانظروا فى شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم أمر عظيم". فإذا عبرنا جسر الزمن أربعة عشر قرنا لنرى ما يقول فيه مفكر مسيحى منصف هو "جودفرى هجنز"، مندهشا من شخصية هذا الرسول الأعظم، الذى فاقت سجاياه وحب أصحابه له كل ما عُرف فى تاريخ الأنبياء ومؤسسى الديانات الكبرى فى العالم.. يقول: "لا يمكن مقارنة صورة ذلك الحب والحماس والرغبة العارمة فى التضحية بالنفس عند أصحاب هذا النبي، بأى صورة أخرى فى سير الأنبياء السابقين عليه.. لقد لاذ أصحاب المسيح بالفرار عندما اقتاده أعداؤه إلى الصليب لقتله.. بينما رأينا كيف التفّ أصحاب محمد حوله، فى حب وشجاعة نادرة، متحملين الأذى والكوارث والموت، دفاعا عنه حتى انتصر وانتصرت دعوته.. وفى معركة من المعارك نادى النبى أصحابه وقد أصيب إصابات بالغة، وأحاط به الأعداء يريدون قتله، فهب سبعة من الأنصار دفاعا عن النبى فقاتلوا قتال الأبطال حتى سقطوا قتلى جميعا.. واحدا بعد الآخر.. وكان من بين هؤلاء ثلاثة من أسرة امرأة أنصارية: هم أبوها وأخوها وزوجها.. عرفتْ بقتلهم، ولكنها ذهبت تسأل بإلحاح: "هل النبى بخير..؟! حتى رأته بنفسها واطمأنت عليه.. فقالت: "كل مصيبة تهون ما دام الرسول سالما.. فأبى وزوجى وأخى وأنا كلنا فداء لك يارسول الله". هذا النبى لم يؤذ أحدا فى حياته، وانتصر قرآنه - الذى يحرقونه اليوم - لعيسى ولموسى عليهما السلام، وأنْصَفَهُما ضد أعدائهما، وضد الذين حرّفوا كتابيهما، فى سور وآيات مستفيضة. تصوّر أن القرآن لم يذكر محمدا بالاسم إلا أربعة مرات، بينما ورد فيه –بالتكريم- اسم المسيح عيسى وأمه مريم 69 مرة، واسم موسى 123 مرة.. هذا النبى المنصف الصادق، تأتى شراذم تنسب نفسها لعيسى وموسى زورا، لتسيء إليه فى كتب وصور وأفلام، تطفح بالكراهية والحقد والأكاذيب.. أقول لهم ولأمثالهم: لن يفلح "الفيِلْم المسيء"، ولا مائة فيلم مثله أن تنال من النبى، وانتظروا النتائج العكسية على المدى القريب والبعيد: مزيد من المتحولين إلى الإسلام، المؤمنين برسالة هذا النبى الأمثل محمد صلى الله عليه وسلم.. [email protected]