قعدت تلملم جراحها، وجلبابها ترقع، وصغارها تبحث لهم عن عمل، ومبانيها المتصدعة ترتعش من تباشير ريح الشتاء وأمطاره، بينما راح مندوب الوالى أو المحافظ الجديد يزأر بشارع النبى دانيال، ثم دخل بعد أن استتب له الأمر على العجوز المظلومة، التى حُق أن نسميها من القواعد.. دخل بلا استئذان.. فقال: تحجبى يا امرأة. قالت: أعطنى قطعة من شطيرة الكومبو التى بشمالك. فنقلها ليمينه، وقال: باسم الله أوله وآخره، تحجبى يا امرأة. فقالت: حائط بيتى يوشك أن ينقض. - : تحجبى يا امرأة. فقالت: السقف من فوقى ميزاب ماء يستحم منه الصغار بالشتاء. - : تحجبى يا امرأة. قالت: البحر لا يمكننى الصيد فيه لكثرة ما تخرجه السفن وتلقيه من قاذورات. - : تحجبى يا امرأة. قالت: لم أقبض التعويض عن ابنى المصاب فى الثورة، وزوجى الذى كان يقدم النرجيلة للمصطافين، ونام عند أمه بعد يوم طويل من التعب، فلم يقم بعد أن انهدم البيت عليه وعلى أمه، هل له معاش؟ - : تحجبى يا امرأة. قالت: طيب أعطنى خمسين جنيها أشترى لأولادى كتبا مدرسية قديمة من شارع النبى دانيال فالمدارس ببابنا والريح. - : تحجبى يا امرأة. قالت: فى طريقى لشراء طرحة أخاف أن يعتدى علىّ سائق التوك توك المنتشر على الكورنيش. - : تحجبى يا امرأة. قالت: أريد علاجا على نفقة الدولة لأعالج سقوط شعرى من الورم الخبيث، وأمى يا سيدى بحاجة لغسيل كُلى. - : تحجبى يا امرأة. قالت: طيب سى يوسف أفندى زيدان كان يتصدق علينا، ومن يوم خروجه من المكتبة واحتجابه غاب عنى إحسانه. - : تحجبى يا امرأة. قالت: أخاف الطريق للحجاب، فالطريق مزدحم بقاطعيه، وبباعة جائرين عليه ومفترشيه ومفترسيه. - : تحجبى يا امرأة. قالت: ورب المرسى لأزورن ديوان مظالم والينا الجديد فى المحروسة سيدى محمد مرسى. - : تحجبى يا امرأة. هربت منه ونزلت مسرعة، بطرف جلبابها تعلق أصغر الأبناء، وتاركة خلفها إخوته جوعى، مرت بشارع النبى دانيال، انخلع قلبها من قعقعة بلدوزر المحافظ الهاد.. انحنت.. التقطت كتابا يريد أن ينزف.. مسحت من عليه التراب والطين، تذكرت أنها تعانى الصداع والأمية، ناولته الصغير وقالت: اقرأ،وصلِّ على أول من قيل له "اقرأ". قرأ الصغير: "ودخلت الخيل الأزهر".. قالت :والإسكندرية أيضا. بعد ساعات فى القطار المتهالك ثم صداع السرفيس، وصلت قصر الوالى بمصر الجديدة، وفوجئت ببابه مفتوحاً، وأنها أمام والٍ لا يرضى بالظلم.. بكت وقالت: يا سيدى، قال لى: "تحجبى يا امرأة"، وأنا كما ترى.. بكى الوالى ورفع بصره نحو السماء وقال: "اللهم اكفنى شر أصدقائى، أما أعدائى فأنا كفيل بهم". [email protected]