لم تكن تعلم هذه السيدة وهي تخطو لتخرج من محطة مصر أن تلك ستكون خطواتها الأخيرة، وأنها في طريقها إلى الموت، أو أن الموت هو الذي يخطو إليها بخطوات أسرع من البرق ...وفي أقل من لحظة اختفت تلك السيدة وابنتها ولعل أسرتها كاملة ومن حولها. حادثة محطة مصر أدمت قلوبنا جميعاً.. وكانت السبب وراء موت عدد من البشر غير قليل، وبالطبع المسئولية تقع على عاتق كل مسئول في هذا البلد، وهم كالعادة لا يبالون بحياة البسطاء أو موتهم، فلدى مصر الملايين !.. ما المانع إذن من موت عشرات في حادثة قطار أو مئات في غرق عبارة أو ذبح آخرين في مباراة لكرة القدم أو تصفية المصلين وهم بين يدي الرحمن أوانتهاء حياة البعض بلدغ الثعابين والعقارب واتفاقها مع السيول على بيوت ناس، الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم مصريون أو.. أو ...أو؟! لكني لست بصدد التحدث في هذا السياق، فقد قيل فيه الكثير والكثير، ولن ينتهي الحديث حتى تُنسي تلك الحادثة بفعل الأيام، لم تغادر صورة تلك السيدة مخيلتي وأثارت داخلي كل الشجون وكافة الهموم وأشعلت رأسي بالتفكير وملأت نفسي بالتأمل.. وذكرتني بهذا الزائر الذي لا يخطئنا جميعا.. فهو لا يحتاج لمقدمات ... ولا يرسل إشعارات ... ولا ينبهنا بإنذارات ....... فقط عندما يقدر له الله، سبحانه وتعالى، بالمجيء يأتي بأي شكل وعلى أي حال فجأة :"أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ " 78 (النساء)... الموت .. أين نحن منه !؟ وأين هو منا؟! سؤال تحتاج إجابته إلى أعادتنا لكافة حساباتنا، فهو أقرب إلينا من كل شيء ... لكن عدوه "ذلك الأمل" الذي يجعلنا ندور في ميكنة الحياة دون توقف للتكاثر في شتى مغرياتها من أموال وأولاد وعقارات ومأكولات وملبوسات ومشروبات إلخ ، وفي ذلك قال الله تعالى :"أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)" ، مخلفين وراءنا ما خلقنا الله له:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)"(الطور)..فننسي العبادة وننسى التقرب للرحمن ولا نذوق أحلى ما في الدنيا وهو حب الله ..ننسي أو نتناسي برغبتنا الاستعداد للموت، الذي قد يأتي فجأة، "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ" 19( ق ). وللأسف الموضة هذه الأيام "عند الغالبية" .. أن نحني رقابنا إلى أسفل لنتصفح النت ونتابع مواقع التواصل الاجتماعي والقيل والقال، بينما لا تغادر أعيننا شاشات التلفاز، من مسلسل إلى فيلم ثم برنامج ولا ننسي مباريات الكرة، وقد ألفت أصابعنا العمل على التغيير بين تلك القنوات بشكل سريع دون ملل أو كلل. انحنت رؤوسنا، ولكن ليس على مصاحفنا، فكُسرت ظهورنا . حدقت عيوننا، ولكن ليس في خلق الله ولا للتأمل، فأصابها العمى. وانشغلت أصابعنا ولكن ليس بالتسبيح، فنُزعت منها البركة. علينا بالفزع من أحلامنا التافهة، وانشغالتنا الزائفة في الدنيا الفانية ...التي لمن يدقق لا تتعدى اللحظات.. ولنكن من العقلاء، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله : فقال:" أكثرهم ذكراً للموت، وأشدهم استعدادا له، أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة". فلنتعظ من الحوادث هذه ونترقب الموت، ولنعلم أننا حتما إليه سائرون ... "اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقاءنا بك". [email protected]