الاثنين الماضي 11/2 كانت الذكرى الثامنة لتنحى أو تخلى الرئيس الأسبق حسنى مبارك عن الحكم الذى استمر فيه من تاريخ 14/10/1981 ..كان وقته لدية 53 عاما ومكث آمرا ناهيا في طول مصر المحروسة وعرضها بشعبها وبرها وبحرها لمدة ثلاثين عاما. وترك الحكم مٌكرها مٌجبرا بعد أن ترك أثارا بالغة السوء على(شخصية مصر) مع الاعتذار للعلامة الراحل د/جمال حمدان صاحب الموسوعة الشهيرة(شخصية مصر) . كل الكتب ومذكرات الساسة وبحوث الدارسين من السياسيين المصريين والغربيين وصفت زمن مبارك بالسنين الأسوأ التى عاشها المصريين خلال القرن الماضى.. مجلة فورين بوليسى التى تصدر قائمة سنوية عن الطغاة والديكتاتوريين وصفت مبارك في عام 2010 م ب (أسوا السيئين ) وقالت عنه : حاكم مطلق مستبد يعانى داء العظمة وشغله الشاغل الوحيد أن يستمر فى منصبه وهو يشك حتى فى ظله و يحكم البلاد منذ 30 عاما بقانون الطوارئ لإخماد أى نشاط للمعارضة ويجهز ابنه جمال حاليا لخلافته.(موت القيم الكبرى لحساب طبقات تأتى من العدم لتهيمن على صورة المجتمع). لم يكن وحده ضمن القائمة ..فقد ضمت 23 ديكتاتورا وجاء ترتيب مبارك بينهم ال 15 وكان معه من الحكام العرب الرئيس السودانى الحالى عمر البشير والقذافى وبشار الأسد وقالت المجلة ان معيار الحكم والتصنيف يقوم على أساس(خيانتهم الثقافية وتدميرهم للاقتصاد الوطنى) وقالت أيضا:فى العالم نحو 40 ديكتاتورا أدرج 23 منهم فقط فى قائمة المجلة وهم يحكمون قرابة مليارين من الناس وأن الفساد الذى يحكم به هؤلاء المستبدين مكلف للغاية حيث تسبب فى فقد الملايين من المواطنين أرواحهم كما انهارت اقتصادات الكثير من الدول وفشلت دول أخرى بسبب القمع الوحشى الذى تمارسه أنظمتها وأضافت .. بنهاية الحرب الباردة كان من المفترض أن تكون نهاية التاريخ حيث اجتاحت الديموقراطية الكثير من دول العالم على أن هذه النسبة لا تعنى أن الديموقراطية منتشرة وتحقق أغلبية فى العالم خاصة وأن معظم هذه الأنظمة ليست ديموقراطية بشكل حقيقى ..جميع هؤلاء الحكام المستبدين كل منهم يمارس استبداده على طريقته الخاصة بالحرية بدأوا حياتهم كمقاتلين من أجل الشعوب وأطلقت المجلة عليهم اسم التماسيح الليبرالية ..يجعلون الشعب يدفع ثمن الخسائر الاقتصادية فى حين يحولون المكاسب الى حساباتهم فى البنوك السويسرية فى الخارج يخونون المثل العليا والمبادئ التى جاءت بهم الى السلطة مشبهة لهم بأنهم كقطاع الطرق الذين يسرقون حقيبة ببساطة شديدة. المجلة رتبتهم كما قالت:حسب غدرهم..وكما قلنا أولا بخيانتهم الثقافية والأزمات الاقتصادية التى تعيش فيها بلادهم . عدد كبير من الكتب الغربية التى تعرضت لعصر مبارك وأنقدته بشكل مباشر وشخصى بسبب سياسات الفساد الداخلية والفشل فى السياسة الخارجية التى وضعت مصر رهن المعسكر الأمريكي والإسرائيلي طيلة 30 عاماً خاصة في السنوات العشر الأخيرة(كان لديه وقتها 72 سنة). دار نشر تشيسى هاوس(تأسست 1966) والتى تنشر سلاسل كتب عن السير الذاتية للسياسيين والشخصيات المؤثرة في العالم نشرت كتاب بعنوان( كبار زعماء العالم) تتبعت فيه الرئيس الأسبق من بداية حياته المهنية حتى اختيار السادات له نائباً وقالت أنه كان في هذه الفترة لا علاقة له(البتة البتيتة المبتوتة)بالسياسة وقالت :السادات كان حليفا قويا لأمريكا وكذلك نائبه حسنى مبارك وربما كان السبب وراء اختيار السادات لمبارك هو كونه متزوجا من امرأة مصرية إنجليزية وهى السيدة/ سوزان ثابت ذات الميول الغربية مثلها مثل السيدة/جيهان السادات وهى نصف إنجليزية أيضا كان لهما دور كبير فى ميل أزواجهم نحو الغرب والتحول بعيداً عن الاتحاد السوفيتي. الكتاب الذى يركز على السنوات التى قضاها مبارك كنائب ذكر أنه بعد أن خسر چيمى كارتر صديق السادات منصب رئاسة. أمريكا قام السادات بإرسال مبارك للولايات المتحدة مرتين فى عام 1980 لكى يودع كارتر ويحاول اللقاء مع الرئيس المنتظر رونالد ريجان لكن مبارك فى هذه الجولات الأمريكية بدأ يقوم بعمليات بيزنس خاصة به مع رجل الأعمال حسين سالم من وراء أنور السادات. وكاد السادات يقوم بعزل مبارك بعدما علم بهذه الوقائع واستبداله بالوزير منصور حسن الذى وصفه الكتاب بأنه كان شاباً طموحاً لكن كون مبارك عسكرياً ينتمى للجيش أبقي عليه فى منصبه ..وأيضا فقد كان مبارك يعرف الكثير عن السادات فى ذلك الوقت ويعرف مدى ارتباطه بأمريكا والحماية الخاصة التى وفرتها المخابرات الأمريكية لحراسته. بوب ودوارد وما أدراك ما بوب الذى فجر فضيحة(ووترجيت)قال في كتابة الأشهر(الحجاب الحروب الخفية لأجهزة المخابرات )الذى صدر 1998م قال إن المخابرات الأمريكية كان لديها تسجيل مصور عن مبارك والقرية التى ولد فيها وعن زوجته ذات الأصول الإنجليزية وربما يكون للولايات المتحدة دور فى اختيار السادات لمبارك نائبا له. جون برادلي الصحفي بريطاني الشهير والذى مكث في الشرق الأوسط 12 عاما مراسلا ومتابعا وأشياء أخرى(على فكرة معظم المراسلين الأجانب: وأشياء أخرى..!)وألف أربعة كتب تتناول الوضع في الشرق الأوسط منها (في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة)والغريب انه نشر عام 2008 وبالطبع منع من دخول مصر وقتها..برادلى مرت من تحت قلمه كل الحكايات فوصف المجتمع المصرى بأنه بدأ فى التحلل والذوبان ببطء تحت عاملين تؤأمين هما :ديكتاتورية عسكرية قاسية/ وسياسة أمريكية فاشلة فى الشرق الأوسط. وقال وقتها : مصر أكثر دولة عربية بها قسوة ويشيع فيها التعذيب والفساد وتحاول فيها عائلة الرئيس حسنى مبارك الكفاح من أجل حل أزمة الخلافة بينما الإسلاميون الذين تم تأديبهم ينتظرون فى الكواليس بفارغ الصبر من أجل فرصة للحصول على السلطة.!(حين خرجوا للحياة السياسية كانوا الحطام بالجملة وللأسف الأسيف لا يدركون حتى الأن أنهم يعيشون فى أتون أزمة حضارية عميقة لا يمكن تجاوزها بحداثة رثة ولا ديمقراطية هجينة) وتعجب برادلى من تحمل المصريين لما يقع عليهم من ظلم وتعذيب ..!!؟؟ ووصف برادلى مصر وقتها بأنها مثل ايران فى الأيام الأخيرة من حكم الشاه قبل قيام الثورة الإسلامية. ليتهم كانوا يفهمون أن سلامة مصر السياسية شرط ضرورى لتوفر الحد الأدنى من الحصانة العربية لإقليم الشرق الأوسط كله . الرئيس الأمريكى الأسبق بوش قال في مذكراته المشهورة(نقاط القرار)أن مبارك أخبر الإدارة الأمريكية بأن العراق يملك أسلحة دمار شامل قالوا ذلك للجنرال تومى فرانكس قائد القيادة المركزية الأمريكية فى ذلك الوقت وأنه سيقوم باستخدامها ضد قواتنا وهو ما أكده أيضا فرانكس في مذكراته الشهيرة(جندي أمريكي) . لكننى أقف هنا قليلا على وصف مجلة فورين بوليسى للطغاة الأكثر سوء ب (خيانتهم الثقافية وتدميرهم للاقتصاد الوطنى)..ماذا يعنى وصف خيانة ثقافية؟ الخيانة هى : محاولة إلحاق الضرر من قبل شخص ما ضد شخص آخر أو مجموعة أشخاص كان من المفترض أن هنالك علاقة ولاء فيما بينهم. والثقافة كما نعلم هى الكل المعنوى والمعرفى والأخلاقي الذى يجتمع ويكون مرجعية في المواقف والسلوك والاختيارات..وقلت أولا ان اخطر ما تسبب فيه مبارك هو تفسخ شخصية المصريين وتحللها كما قال بعدها ونقلت عنه الصحفى الخطير برادلى ..لقد نجح مبارك في ان يجعل الفساد والتردى يسرى في شرايين المجتمع المصرى سريانا دفاقا فياضا. وهو ما ذكره كثير من المسؤولين الإسرائيليين في مذكراتهم. ليس فساد الذمم والضمائر فقط بل فساد الصحة والوعى على نحو يجعل مهمة النهوض والإصلاح بالغة الصعوبة . نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية نقلا عن مذكرات مبارك التى نشرتها صحيفة روزاليوسف انه كان يحول 25 ألف دولار شهريا لوزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق بنيامين بن إليعاذر للعمل كمستشار له ..الشرطة الاسرائيلية حققت مع الوزير السابق للتأكد مما اذا كانت أعماله تشوبها تجاوزات للقانون وتمثل مساسا بأمن الدولة. واذا كان الإسرائيليون يحققون مع الوزير الإسرائيلي بشأن تلك المعلومات الخطيرة التى تكون بالطبع قد عرضت مصر لكارثة كبرى وخطر جسيم على امنها القومى . الوصف الثانى(تدميرهم للاقتصاد الوطنى..)والحديث عن عمليات الخصخصة وبيع أصول ممتلكات المصريين التى كانت دولة ناصر قد استولت عليها بقرارات التأميم(1962) ثم أعادت دولة مبارك بيعها للصوص والسماسرة ببخس الأثمان.الحديث عن هذا فقط يتجاوز وصف كلمة (تدمير)التى ذكرتها المجلة . لن أحدثك عن وأد مبارك لأى محاولة لزراعة القمح والاكتفاء الذاتى منه..لن أحدثك عن مشروعات الفشل الفشيل في توشكى والعوينات..لن أحدثك عن الصفوة الخفية التى كانت تلاحق المستثمرين وتتضيق عليهم أمورهم والسبب بالطبع معروف . ما كان مبارك إلا امتدادا خالصا للسادات بظروف عصره بالطبع وما كان السادات إلا امتدادا زلالا للزعيم الخالد وعليه فقد يصعب الحكم على ثلاثين مبارك البائسة دون أن تمد يدك للقاع السفلى الذى ملأ إناء السلطة والحكم منذ حركة الضباط الأحرار يوليو 1952 حتى يناير 2011. أولئك الذين أهملوا إقامة نظام حازم يكون أقوى من الأفراد ويبقى بعد رحيلهم. فكل شيء يمكن التضحية به على مذبح الاستمرار في الحكم.