أعلم أن ما سأسرده الآن سيكون صعبا على بعض الناس ولكنه ربما يكون كإضاءة من زاوية أخرى قد تجنبنا تكرار مسلسل الفتن المقيتة. نريد القصاص ولنا فيه حياة.. نعم لكن لنكمل الآيات "فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة". "البقرة: 178" ولنر فى السيرة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرنى أن أصل من قطعنى وأن أعطى من حرمنى وأن أعفو عمن ظلمنى». آذاه قومه، طردوه، شتموه، أخرجوه، حاربوه، فلما انتصر وفتح مكة قام فيهم خطيباً وأعلن العفو العام على رءوس الأشهاد: «عفا الله عنكم اذهبوا فأنتم الطلقاء». لم يسفك الدماء.. لم يضرب أعناقهم.. رغم كل ما عانى من جبروتهم.. وفى خطبة الوداع بدأ بنفسه فى التنازل عن حق دماء أريقت ظلما وعدوانا مما يثقل على الآخرين ((وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا فى بنى سعد، فقتلته هذيل)). فبالصفح.. ألَّفَّ منهم القلوب.. وبهم إذ آمنوا.. أقام دولة الإسلام التى أضاءت العالم فى أقل من ربع قرن. لقد استوعب عمر عبد العزيز هذا الدرس النبوى وإذ حكم بعد سنوات من الظلم والاستبداد نجده يحاور ابنه الشاب اليافع عبد الملك المتوقد حماسة للقضاء السريع على كل المظالم فيقول له: يا بنى، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما فى أيديهم لم آمن أن يفتقوا على فتقاً تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون على من أن يراق بسببى محجمة من دم، ولا خير فى خير لا يجىء إلا بالسيف، يا بنى إنى أروض الناس رياضة الصعبة. حتى منديلا يقول لنا تذكروا قول نبيكم: (أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التى تصلنى عن تفاصيل الجدل السياسى اليومى فى مصر وتونس تشى بأن معظم الوقت هناك مهدر فى سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفى والإقصاء. أنا أتفهم الأسى الذى يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أننى أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم. أنتم فى غنى عن ذلك، أحبتى.. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق فى النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هى أكبر هدية للبلاد فى هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم فى البحر. (وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلت “لجنة الحقيقة والمصالحة” التى جلس فيها المعتدى والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر، إنها سياسة مرة لكنها ناجحة، أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء). نيلسون مانديلا أعتقد أن الرئيس المهندس مرسى باختياراته الأخيرة فى الحكومة والفريق الرئاسى يسير على ذلك الطريق الذى تمنيت لو وعاه كل السياسيين المتشدقين بالثورية الكلامية. فالرئيس المهندس يقود سفينة النجاة بعون الله لمصر وللمصريين جميعا وصدق بعمله ما قاله إنه رئيس لمن قال له لا كمن قال له نعم، فالمهندسون كما ذكر الشيخ راشد الغنوشى لهم دور قيادى بارز فى الحركة الإسلامية المعاصرة بديلاً عن المشايخ. فهم يحسنون لغة الأرقام والتخطيط، فطبعوا التيار بطابعهم، وغلبوا عليها الروح العملية. هل يعلمون أن مصر بحاجة لذلك العلاج ولكنها ليست وحدها فالبشرية الآن تئن وتنتظر مرة أخرى فارسا من مشكاة النبوة يمسح آهات المظلومين والمستضعفين. (إن الغرب الآن بحاجة إلى الإسلام أكثر من أى وقت مضى، ليعطى للحياة معنى، فالإسلام يملك مفتاح الإصلاح لأنه يمتاز بقاعدتين: هما التسامى وروح الجماعة. البروفيسور روجيه غارودى)