لا يتجاهل علم الاجتماع السياسي قيمة الفروق الشخصية للزعماء في إدارة الأزمات الكبيرة. يبدو الآن أن تركيا كسبت الجولة الأولى بالنقاط في الحرب الاقتصادية التي يشنها ترامب، والفضل يرجع إلى سمات وفروق شخصية يتميز بها أردوغان. عصر الأربعاء ارتفعت الليرة 6% أمام الدولار ، في الوقت الذي ضخت قطر 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي في صورة استثمارات ومشروعات جديدة وودائع، ولا شك أن ذلك كان له أثره الفوري في بدء تعافي الليرة، وقد سحب ذلك من ترامب الورقة الخليجية التي أخرجته عقب توليه الحكم من أزمته الاقتصادية، وظلت حصن الأمان لواشنطن في المواجهات الكبرى. أضف إلى ذلك القرارات السريعة التي اتخذها الرئيس التركي بالتعاون مع مستشاريه الاقتصاديين والسياسيين، فقد رد على رفع ترامب للجمارك على واردات الصلب التركية برفع الجمارك على بعض السلع الأميركية بنسبة وصلت إلى 120% للسيارات و140% على المشروبات الروحية و60% على التبغ الخام. أدى ذلك إلى قلق البيت الأبيض معتبرا أنه انتقام من قرار رفع الرسوم الجمركية الذي اتخذه ترامب معللا بأن ما فعله الأخير كان لدواعي الأمن القومي، وهو تبرير غريب يوضح أن صاحب المكتب البيضاوي يفتقد إلى القدرات السياسية ويعتمد فقط على خبرته في المضاربات كرجل عقارات، فلا يمكن أن تسمي قراراتك ضد اقتصاد دولة أخرى بأنها "أمن قومي" في الوقت الذي تنزع هذا الحق عن تلك الدولة! البعض في عالمنا العربي كان يسخر من إصرار تركيا على رفع راية التحدي. والبعض الآخر نصحها مشفقا بأن تنحني للعاصفة حتى لا يكون مصيرها كالعراق التي اجتازها الأمريكان بعد أن بلغ بهم الغضب مبلغه من صدام حسين. تركيا تملك من العوامل الجيوسياسية والتاريخية والقدرات الشخصية والاقتصاد المنتج ما جعلها قادرة على صنع الفارق. وأي انحناء للعاصفة بناء على نصائح الشفقة كان سيكون خصما من كل تلك السمات. لا ينكر أحد قوة أمريكا كدولة عظمى أولى في العالم وسيطرتها على القرار السياسي الدولي واقتصادها القوي المؤثر، لكن ذلك لا يعطيها شيكا على بياض لفرض العقوبات التجارية على من لا ترضى عنه، كما أن الاستسلام لهذه العقوبات من شأنه أن يضر بكل الدول بما فيها الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وليس تركيا فقط. دحر أردوغان حركة الانقلاب في 15 يوليو 2016 بقدراته الشخصية وخطبه المتوالية ودعواته الشعب للخروج إلى الشارع والمقاومة، ويبدو أن الانقلابيين فوجئوا بفعالية تلك السمات ولم يقدروها حق قدرها، فجنوا الفشل الذريع. تكرر الأمر نفسه بإعلان ترامب حربه التجارية وفرضه العقوبات انتقاما من احتجاز القس، وهو ليس سببا حقيقيا كما اهتدت لذلك معظم الصحف الأمريكية، فترامب يعول كثيرا على سماته الشخصية هو الآخر، فترى عنجهيته الشديدة وعدم احترامه للزعماء الآخرين كما ظهر في الاجتماعات التي ضمته معهم ما عدا قمة هلسنكي التي تنازل فيها عن كبره وكبريائه لصالح شخصية بوتين! أردوغان والمحيطون به يعلمون مفاتيح شخصية هذا الرجل وعيوبه ونواقصه، ولعبت خبرة الرئيس التركي السياسية وشعبيته داخل تركيا وخارجها على تلك النقائص وحققت ما تريد حتى اللحظة الحالية. لا نعلم ما ستتمخض عنه هذه المواجهة التي تحولت إلى مقابلة بين رجلين، أحدهما يعتمد على خبرة سياسية طويلة وكاريزما شخصية وهو أردوغان، والثاني يعتمد على الصدمات التي يختلقها اعتمادا على قيادته لأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، لكنه في أغلب الأحوال يبدو كسائق مبتدئ يقود سيارة فارهة! [email protected]