قدّم المصري العلاّمة الملقّب ب" شيخ المحققين " الدكتور عبد السلام هارون، للغة العربية، ما عجزت عنه جامعات ومؤسسات، حيث حقق عشرات الكتب التي لو لم تصل إلى يديه، لكانت في مهب الريح، تشويهاً وتزيداً وتصحيفاً. نال جائزة الملك فيصل العالمية، عام 1981، تقديراً لجهوده في صالح اللغة العربية، كان حدثاً مبهراً بكل المقاييس، خصوصاً في التوقيت، لطالما كانت المنطقة العربية تشهد، وقتذاك، حرب إيران مع الجمهورية العراقية، وكذلك الحرب الأهلية اللبنانية ومقدمات الاجتياح الإسرائيلي، ومجريات القمع الدموي الذي واجه به نظام حافظ الأسد معارضيه، والذي أدى لمقتل وجرح الآلاف. تقدّم شيخ المحققين في هذا التوقيت من العالم العربي لاستلام جائزته، في المملكة العربية السعودية، وكان من التواضع والدّعة والزهد أن قال في كلمته التي ألقاها، إنه كان سعيداً لمجرّد ترشيحه لنيل هذه الجائزة، ليقنع ويرضى، فكيف إذا أعلن فوزه فيها؟ ، وفقا للعربية نت. وقال هارون في كلمته التي تلت إعلان فوزه بالجائزة، عبارة لن تمحى من سجلات التاريخ لما فيها من حض على قيم العلم والمعرفة التي تتجاوز مفهوم الهوية: "العِلمُ لا يعرف التعصّب، والمعرفة لا تعرف الانتماء". هارون من مواليد محافظة الإسكندرية عام 1908، ولم يكن نزوعه إلى الأدب والتراث واللغة، منفصلاً عن بيئته التي جاء منها، بل كان لأسرته التي انحدر منها، الدور الأساس في نزوعه إلى اللغة والتحقيق والتأليف، فهو من بيت كلّ أهله مؤلّفون، من جدّه إلى أبيه، إلى شقيقه. وكان أول كتاب حقِّق بين يديه ونشر باسمه، عندما كان طالباً صغيراً في الأزهر وعمره لم يتجاوز ال 16 عاماً، هو كتاب "متن الغاية والتقريب" للقاضي أحمد بن الحسين الأصفهاني. وتدرّج هارون في سلّم التعلّم، منذ حفظه القرآن الكريم، ثم التحاقه بالأزهر، ثم دراسته بمدرسة دار العلوم، وصولاً إلى كلية دار العلوم العليا التي تخرج منها عام 1932 قبل أن يمارس التدريس في كلية الآداب في جامعة الإسكندرية. هارون بعدما أصبح رئيساً لقسم الدراسات النحوية في جامعة الإسكندرية، ساهم في إنشاء جامعة دولة الكويت، ووضع منهاج قسم اللغة العربية فيها، فضلاً عن أنه عمل رئيساً لقسم اللغة العربية في الجامعة ذاتها، لأكثر من عشر سنوات. اختير عضواً بمجمع اللغة العربية، في القاهرة، بعد إنجازاته التي لا تعد ولا تحصى، في إحياء التراث اللغوي العربي، إذ كان قد حقق في تلك الآونة بعض أهم كتب التراث العربي، من مثل "خزانة الأدب" الذي كان بدأ بإنجاز أجزائه الأولى منذ عام 1927. كما أنجز تحقيقه لمؤلفات الجاحظ، في خمسينيات القرن الماضي، ككتاب "الحيوان" و"البيان والتبيين" ورسائل الجاحظ. وقدّم تحقيق كتاب "معجم مقاييس اللغة" للغوي الشهير ابن فارس، وهو كتاب يتلازم الاطلاع عليه والتبحّر فيه، مع المعاجم والقواميس، نظراً إلى اشتغال هذا الكتاب على المادة الحروفية للكلمة العربية في أصولها ، بالإضافة إلي إنتاجه نصاً محققاً لكتاب سيبويه وقدمه لقراء العربية وأهلها في أبهى حلة، من أربعة أجزاء. العجيب أن كل هذا الإنجاز لشيخ المحققين ، جاء وهو على رأس عمله لا يفارقه في التدريس الجامعي العالي، وفي الإشراف على أطروحات الدراسات العليا والدكتوراه، لعشرات من الأكاديميين. وأقل ما يقال أنه كان مؤسسة تحقيق وتأليف، تمشي على قدمين، وما قدّمه للعربية لا يمكن إحصاء أثره، لضخامته ولامتداده في الزمن ، حيث قارب عدد الصفحات التي خرجت من بين يديه تحقيقاً وتأليفاً، الخمسين ألف صفحة ، و114كتاباً، بين التحقيق والتأليف ، وربما يتجاوز هذا الرقم، لأن عدد كتبه الفعلي وصل إلى 121 كتاباً، حسب ما ورد على غلاف آخر كتبه المعروف ب"قطوف أدبية" الذي نشر على غلافه بأنه كتابه ال 121 وآخر كتبه. رحل شيخ المحققين سنة 1988، تاركاً خلفه هذا الأثر الريادي العالي الذي يجعل من قارئ تراث العربية، حكماً، متصلا به ومتعرفاً إليه، في أي طريق سلكه.