لم يُهِن الرئيس الأمريكي ترامب نحو مليار وسبعمائة مليون مسلم هم مجموع الشعوب العربية والإسلامية بقراره بشأن القدسالمحتلة، إنما أهان أنظمة ، ومعظمها إن لم يكن كلها صديق لبلاده، لأن الشعوب ليست حرة بما يكفي للتعبير عن هديرها الرافض للقرار الذي سيصل صداه إلى حيث يجلس بمكتبه البيضاوي في واشنطن، والذي سيهز كيان الاحتلال هزاً عنيفاً. الشعوب في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه لديها الشجاعة والنخوة والحماسة والحمية والتضحية بكل نفيس لأجل قضاياها التاريخية القومية الدينية الروحية المصيرية الوجودية، وفي مقدمتها القدس الأسيرة، لكنها لا تُمَكَّن من إبراز كل ما تمتلكه من قدرات على ردع المعتدي سلمياً حضارياً، ورد المتغطرس الذي يمارس عنجهيته كما يشاء لأن هناك من هم مستسلمون لجبروته، مهزومون في وجدانهم وإرادتهم أمامه، وكأنها أمراض قدرية ملازمة لآفة الاستبداد. على قدر ما تستطيع الشعوب الإفلات من التضييق فإنها تجازف وتهتف وتندد، وهذا ليس أمراً هيناً، بل هو عمل كبير، فالاحتجاج الجماعي حتى لو كان محدوداً يكون له تقديره عند الشعوب الحرة في العالم الديمقراطي، ولدى حكوماتها المنتخبة حتى لو انتجت عنصرياً غير متزن أحياناً مثل ترامب. التظاهر السلمي المنظم أسقط المستبدين عن عروشهم في الربيع العربي، ويحدث ذلك في كل بلد يريد شعبه استرداد كرامته وحريته وإرادته، ومؤخراً في زيمبابوي عندما أُتيحت الفرصة للشعب لإعلان موقفه خرج يصب اللعنات على الطاغية الذي حكمه 37 عاماً فزاده فقراً على فقره، وحوله إلى شعب عاطل بالجملة. ورغم التضييق، فقد خرجت وتخرج المظاهرات منذ القرار العدواني في العواصم العربية والإسلامية والأجنبية نصرة للقدس، ودعماً للفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال الأكثر إجراماً في التاريخ، احتلال يستخدم كل وسائل القوة الغاشمة لشطب الوجود الفلسطيني العربي الإسلامي، ليس من الجغرافيا فقط، بل من التاريخ والفكر والثقافة والفن والتراث، ويمارس المصادرة للأرض والتهويد للرموز والمقدسات الدينية والروحية، وحتى طرز الملابس وأنواع من الطعام ذات الخصوصية الفلسطينية لم تسلم منه فهو يسرقها وينسبها لنفسه، شتات بلا أرض ولا تاريخ، ينهبون الأرض من أصحابها، ويسطون على التاريخ. أنظمة الحاكم الفرد تخشى شعوبها، لذلك ستظل ضعيفة أمام المتغطرس الأمريكي، والمحتل الصهيوني مهما تقربت منهم ونسجت العلاقات الحميمة معهم، ولو كانت الأنظمة تستند على شعبية حقيقية، وتتفانى في خدمة مواطنيها ورفاهيتهم، لما كانت قوات الأمن والشرطة في حالة استنفار دائم في مختلف العواصم، ولو كانت الأنظمة إفراز انتخابات تنافسية حرة نزيهة لنامت مطمئنة إلى أن مواطنيها لو خرجوا كلهم للشوارع فإنهم سيعودون لبيوتهم بعد أن تنتهي احتجاجاتهم، والشرطة ستكون في خدمتهم وحمايتهم، ولن تكون مرهقة دوماً، لأن هؤلاء المواطنين هم الذين اختاروا الحاكم والحكومة، وهم من يبقونهم، أو يصرفونهم، عبر وسيلة وحيدة فقط وهي صندوق الانتخاب السحري، وليس الدبابة. تخرج فيها المظاهرات بالملايين في باريس ولندن وبرلين ونيويورك وروما ومدريد وعواصم العالم الحر الديمقراطي للتفاعل مع قضايا داخلية وخارجية، ولم تنزعج الحكومات هناك، ولم تُغلق الميادين والشوارع، ولم تتهم المسيرات بأن هدفها التخريب، ولم تقل إن هناك من يخطط للاندساس فيها واستثمارها لترهيب المواطنين، وتهديد كيان الدولة، ومن المدهش أنه خلال ثورات الربيع العربي لم تسقط أي دولة، وكيانات الدول لم تكن مهددة من الأصل رغم طول فترة الاحتجاجات في اليمن، والمواجهات المسلحة في ليبيا. كان المتظاهرون حضاريون ومسالمون وعقولهم وقلوبهم على دولهم والحفاظ عليها في تونس ومصر واليمن، وأحلامهم بدول جديدة تقوم على الحق والعدل والحرية والكرامة. وخرجت ليبيا لتبدأ عهدا جديداً، لكن أصابتها نكبة وكذلك اليمن، وسوريا دخلت النكبة مبكراً، ولم تخرج منها بعد، وهذا موضوع طويل وكبير ومتشابك. لو تمتعت الأنظمة المهزوزة ببعد النظر، والثقة بالنفس، لأيقنت أن رسالة مظاهرات شعوبها ضد القرار الأمريكي الذي يضرها كثيراً، ويخدم إسرائيل فقط، تصب في صالحها، فهي تقوي موقفها في رفض الاعتداء على القدس لو كانت مُتحرجة من التصعيد السياسي لوجود علاقات خاصة تربطها بواشنطن وتل أبيب، وتعلن من خلالها أن لديها رأي عام تحترمه ولا تتجاوزه في قضية حساسة وخطيرة. حماقة ترامب تمنح الأنظمة ورقة ضغط مهمة لو أحسنت استثمارها شعبياً لكانت قادرة على اتخاذ قرارات قوية لصالح القدس والشعب الفلسطيني وحقوقه المنتهكة، وبواسطتها تؤكد ارتباطها الوثيق بقضية عربية إسلامية شديدة الأهمية غير قابلة للتفريط، أو المساومة، كما تستفيد منها في تحسين سجلها الداخلي، لكنها تهدر الفرص والمنح المجانية، فلا يوجد توجه حتى الآن لاتخاذ موقف عربي جماعي مؤثر بعيداً عن الخطب والتصريحات الرسمية الصاخبة، علاوة على التضييق الذي يشتد على الشعوب التي تريد أن تنتصر للقدس. [email protected]