خرج روبرت موجابي من مقره الرئاسي المعروف باسم "السقف الأزرق" بأفضل طريقة له ولزيمبابوي. إنه درس حضاري يقدمه للعالم هذا البلد الأفريقي الفقير الذي تزيد نسبة البطالة فيه عن 90%. الجيش بطل هذا الدرس. تدخل لوضع حد للأزمة السياسية التي أغضبت الشعب من زعيمه التاريخي ومحرره "موجابي" عقب إقالته لنائبه العجوز الملقب بالتمساح إيمرسون منانغاغوا، وهو للعلم أحد أبرز مؤيديه وشريكه في عمليات القمع الواسعة للمعارضة. كان يمكن للجيش أن يدخل فورا إلى السقف الأزرق وينتزع الرئيس بالقوة من كرسيه. يعتقله ويخفيه ثم يحاكمه فيما بعد مع مؤيديه وأنصاره. هذا لم يحدث حتى والرئيس يعلن تمسكه بالسلطة إلى الرمق الأخير. كانت الجهود الدبلوماسية تتواصل معه من أكثر من طرف. من نائبه المقال الذي ظل على اتصال تليفوني معه من منفاه الاختياري، وقد دعاه موجابي للعودة في سبيل إيجاد حل للأزمة السياسية، إلا أنه رفض خشية على حياته. قادة الجيش استمروا يفاوضونه بصبر رائع بكل الطرق الدبلوماسية. حزبه الحاكم "الاتحاد الوطني الأفريقي" أقاله من رئاسته وأمهله 24 ساعة لتقديم استقالته من رئاسة الجمهورية. البرلمان تلقى طلبين لبدء إجراءات عزله من السلطة. في نهاية المطاف اختار موجابي الزمان والمكان الملائمين وحافظ على كرامته كزعيم تاريخي لزيمبابوي فهو صاحب سجل حافل من النضال ضد المستعمر والعنصرية البيضاء، محررها ورئيسها الوحيد منذ استقلالها عام 1980. كانت كل الأطراف وأولها الجيش لديها إصرار لا يلين على انتقال السلطة بطريقة دستورية، لا دم فيها ولا شبهة لوجود انقلاب. "الانقلاب" مهما تعددت ألوانه.. أبيض أو أصفر أو سماوي.. حرص الجيش على النأي عنه بكل الوسائل مهما طال الوقت. ظل الاحتكام للدستور المعمول به في البلاد واجراءاته، سيد الموقف وموضع احترام الجميع. "الانقلاب" كلمة سيئة السمعة تضر بأي نظام جديد حتى لو زعم أنه فتح "عكا" لانقاذ البلد من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. يسيء لمن جاء بهم ولا تفلح معه أي جهود تجميلية. موجابي هو مؤسس زيمبابوي وأحد مؤسسي القارة السمراء الخالية من الاستعمار، ناضل طويلا ضد العنصرية البغيضة وتغلب عليها، وساند البطل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا حتى تحقق له الانتصار. اختار موجابي طريق السلطة المؤبدة عكس مانديلا فخرج من التاريخ مع أنه كان يمكنه أن يكون إلى جانب مانديلا كزعيم تاريخي محرر للسود. حرص نائبه المطرود (76 عاما) إيمرسون منانغاغوا على التخلص من رغبة الثأر والانتقام. لم يظهر الفرح والشماتة ويحرض الجيش على التعجل في اقتحام قصر "السقف الأزرق". كان إيمرسون صامتا طيلة الأيام الماضية ولم يتكلم إلا قبل ساعات قليلة من استقالة الرئيس. عرفنا لاحقا أنه كان على اتصال مستمر به لاقناعه بالخروج الاختياري حفاظا على إرثه السياسي التاريخي. انتهى الدرس بتلاوة رئيس البرلمان خطاب الاستقالة التي طلب موجابي تفعيلها فورا. العالم ينظر بإعجاب إلى ما يحدث في هراري "عاصمة زيمبابوي" وإلى حكمة الجيش وابتعاده عن التدخل الخشن في فرض أمر واقع. ستكتمل ملحمة الجمال والابهار بانتخابات حرة نزيهة لا يشارك فيها الجيش بأي شكل أو سيناريو. [email protected]