سوف يقف التاريخ طويلاً أمام ثورة 25 يناير المصرية، وسوف تكون أعجب ثورة فى التاريخ الإنسانى، فهى باختصار تلك الثورة الشعبية العارمة، التى اتحدت جموع الشعب فى إشعال أتونها، وشارك فيها جل طوائف الشعب، وسالت دماء المئات من الشهداء وآلاف من الجرحى، من أجل إسقاط النظام، لكنها تحولت فى غفلة من الجميع إلى ثورة لإطفاء شرعية لهذا النظام الفاسد. كان النظام الفاسد مغتصبًا للسلطة، ولم يكن ثمة شرعية شعبية أو دستورية أو قانونية تعضد بقائه على كرسى الحكم، فكل الانتخابات التى تمت فى عهده كلها كانت مزورة، والقوانين والتعديلات التى تمت أيضًا فى عهده كلها كانت تفتقد الشرعية والصلاحية، فعاش الحاكم طوال سنى حكمه فى الحرام، ويحكم شعبه بالحديد والنار والإذلال والتجويع، حتى فاض الكيل وهب الشعب مزمجرًا غاضبًا، فكسر حاجز الخوف وخرج من قمقمه كما المارد الجبار، يطالب بحقوقه المغتصبة. أحمد نظيف آخر رئيس حكومة فى عهد النظام الفاسد قال ذات يوم: "شعبنا مش معتاد على الديمقراطية"، ووقتها اعترض الكثيرون على ما قاله، لكن ها هى حوادث الزمان تثبت صدق ما قاله، فالشعب بعد نجاحه فى إسقاط النظام بصورة أبهرت العالم كله، وبعدما شعر أنه بات حرًا طليقًا، وجدناه يتشرذم ويتصرف بشكل غوغائى لا يراعى الحدود الدنيا من أى ضوابط، فكل شىء أصبح مباحًا ومتاحًا، وفى لحظة تحولت الحرية من معنى جميل ونبيل إلى وسيلة لارتكاب كل شىء مهما كان منفرًا ومقززًا، بل حتى ولو كان هذا الشىء يمثل جرائم قانونية وأخلاقية. وفى ظل حالة الانفلات هذه التى شهدتها البلاد تحت مسمى "الحرية"، جاءت الفرصة للشعب لكى يختار من يحكمه، الشعب الذى ثار وزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة الذين حكموه سنوات طوال، الشعب الذى بذل الغالى والنفيس وضحى بكل شىء بما فيها الأنفس، الشعب الذى أجبر العالم كله أن يردد معه ذلك الشعار الرائع "الشعب.. يريد.. إسقاط النظام"، الشعب الذى أزاح الكربة وكشف الغمة.. حينما جاءته الفرصة لكى يختار، اختار.. ويا للكارثة.. اختار مرة أخرى النظام الذى ثار لكى يسقطه!! الرجل الذى كان رئيس آخر حكومة فى العهد الفاسد، وكان أبرز إنجازاته معركة الجمل التى كان هدفها إبادة الثوار بطرق همجية وحشية. الرجل الذى تم إحراق كل مقار أمن الدولة لحظة خروجه من منصبه، ولا أعرف لماذا لم يربط أحد بين هذا وذاك، وهل ثمة علاقة بين خروجه والإصرار على إحراق كل وثائق أمن الدولة فى نفس ساعة خروجه؟ ولم يتم التحقيق معه بشأن هذه الجريمة، ولا التحقيق مع وزير داخليته، ولا مع رئيس الجهاز بشأن هذه الجريمة حتى الآن. الرجل الذى تحوم حوله شبهات قوامها 34 بلاغًا أمام النيابة العامة، كلها جرائم فساد وإهدار مال عام وتربح، وبعضها يمس الشرف والسمعة. وقبل كل هذا فهو امتداد طبيعى للرئيس الفاسد المحبوس حاليًا، هو صورة بالكربون منه، نفس العقلية، ونفس الأيديولوجية، ونفس المنهج فى التعامل مع قضايا الوطن، والتعامل مع أبناء الشعب. لقد كان مبارك مغتصبًا للسلطة، فجاءت هذه الثورة "الجميلة" لكى تثبت أقدام نظامه فى السلطة بشرعية شعبية لا يستطيع أحد أن يطعن فيها، فها هو الشعب الذى ثار ضد مبارك لأنه كان مغتصبًا للسلطة، هو نفس الشعب الذى يهرول نحو صندوق الانتخابات ويعطى الشرعية من جديد لنظام مبارك، ويؤكد للعالم كله أن هذا الشعب لا يتقبل سوى الحاكم الفاسد المستبد، ويعيد الاعتبار لكل طغاة العالم. لأجلك أنت.. كانت الثورة يا مبارك، للتأكيد على شرعية نظامك الذى أعيد بناءه من جديد، مع تغيير شكلى فى الأسماء، فبدلاً من "جمال" يأتى شفيق، اليوم، لكن غدًا سوف يأتى جمال. ومن أجل عينيك يا شفيق قمنا بالثورة، لنؤكد للعالم كله أن شعب مصر لا يرضى بغير الطغاة حكامًا له، فهذا الشعب الذى ظل لثلاثة آلاف سنة يحكمه الأجنبى، وقدر له أن يحكمه أسوأ طغاة التاريخ وأقبحهم لا يرضى بغير هؤلاء حكامًا له. الشعب المصرى حكمه لثلاثة قرون "الغلمان" الذين كانوا يباعون فى أسواق النخاسة وأسسوا دولة المماليك، وظلوا يحكمونه حتى بعد الفتح العثمانى وزوال دولتهم، إلى أن جاء محمد على وقضى عليهم فى مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811، وبعدها تمكن من تأسيس دولة عظمى. ثورة يناير التى قامت ضد المماليك، لم تقترب من أمرائهم، بل أعطت الشرعية لهم، وها هو الأمير المملوكى الجديد على وشك حكم مصر، مدعومًا بشرعية ثورية، وشرعية دستورية، بل وشرعية شعبية. [email protected]