ثانيا : التشديد فى غير موضعه :- وقد يؤدى الإفتاء الخاطىء إلى التشديد فى غير موضعه ، فعن جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال : { خرَجْنا في سفَرٍ فأصابَ رجلًا منَّا حجَرٌ فشجَّهُ في رأسِهِ ثمَّ احتَلمَ فسألَ أصحابَهُ فقالَ هل تَجِدونَ لي رخصةً في التَّيمُّمِ فَقالوا ما نجِدُ لَكَ رُخصةً وأنتَ تقدرُ علَى الماءِ فاغتسَلَ فماتَ فلمَّا قدِمنا علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أُخْبِرَ بذلِكَ فقالَ قَتلوهُ قتلَهُمُ اللَّهُ ألا سألوا إذْ لَم يعلَموا فإنَّما شفاءُ العيِّ السُّؤالُ إنَّما كانَ يَكْفيهِ أن يتيمَّمَ ويعصرَ - أو يعصبَ شَكَّ موسَى - علَى جرحِهِ خرقةً ثمَّ يمسحَ عليها ويغسِلَ سائرَ جسدِهِ } ( رواه أبو داود وحسنه الألبانى ) ففتوى هؤلاء بعدم جواز تيمم صاحب الشجة كانت تشديدا فى غير موضعه - حيث يجوز التيمم لمن فقد الماء ، أو وجده وليست عنده القدره على إستخدامه ، أو تضرر بإستخدامه - أدت إلى وفاته ، وإستحقاقهم دعوة النبى صلى الله عليه وسلم . ومن أمثلة ذلك : الإفتاء بعدم جواز القصر فى السفر : فقصر الصلاة الرباعية - الظهر ، والعصر ، والعشاء - ، وصلاتها ركعتين ، سنة مؤكدة ، قال تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ( النساء : 101 ) وعن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد أمن الناس ، فقال : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقةٌ تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته " ( رواه مسلم ) . وبالرغم من ذلك تجد من ينكر على من يقصر صلاته فى السفر ، وينهاه عن ذلك ويفتى غيره بعدم جوازها ، بحجة أنه بصحته ، ويستطيع أن يصليها تامة !! ثالثا : تحريم الحلال :- وقد يؤدى الإفتاء الخاطىء إلى تحريم الحلال ، فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر له أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكان بدريا مرض في يوم جمعة فركب إليه بعد أن تعالى النهار واقتربت الجمعة وترك الجمعة وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنَّ أباه كتَب إلى عُمرَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأرقَمِ الزُّهريِّ : يأمُرُه أن يدخُلَ على سُبَيعَةَ بنتِ الحارثِ الأسلَميَّةِ، فيسألهَا عن حديثِها، وعما قال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين استَفتَته . فكتَب عُمَرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الأرقَمِ إلى عبدِ اللهِ بنِ عُتبَةَ يُخبِرُه : أن سُبِيعَةَ بنتَ الحارثِ أخبَرَتْه : أنها كانتْ تحتَ سعدِ بنِ خَوْلَةَ، وهو من بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ، وكان ممن شَهِدَ بدرًا، فتُوفِّيَ عنها في حَجَّةِ الوَداعِ وهي حاملٌ، فلم تَنشَبْ أن وضَعَتْ حملَها بعدَ وفاتِه، فلمَّا تَعَلَّتْ من نِفاسِها تجمَّلَتْ للخُطَّابِ، فدخَل عليها أبو السنابِلِ ابنُ بَعكَكٍ، رجلٌ من بني عبدِ الدارِ، فقال لها : ما لي أراكِ تجمَّلْتِ للخُطَّابِ، تُرَجِّينَ النِّكاحَ، فإنكِ واللهِ ما أنتِ بناكحٍ حتى تمرَّ عليكِ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ . قالتْ سُبَيعَةُ : فلما قال لي ذلك جمَعْتُ عليَّ ثِيابي حين أمسَيْتُ، وأتَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسألتُه عن ذلك، فأفتاني بأني قد حَلَلْتُ حين وضعْتُ حَملي، وأمَرَني بالتَّزَوُّجِ إن بَدا لي . } ( رواه البخارى ومسلم ) قال النووى – رحمه الله – فى " شرحه لصحيح مسلم " : { فيه حديث ( سبيعة ) بضم السين المهملة وفتح الباء الموحدة أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عدتها انقضت وأنها حلت للزواج ، فأخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف فقالوا : عدة المتوفى عنها بوضع الحمل ، حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج . هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا رواية عن علي وابن عباس وسحنون المالكي أن عدتها بأقصى الأجلين وهي أربعة أشهر وعشرا ووضع الحمل ، وإلا ما روي عن الشعبي والحسن وإبراهيم النخعي وحماد أنها لا يصح زواجها حتى تطهر من نفاسها ، وحجة الجمهور حديث سبيعة المذكور وهو مخصص لعموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ومبين أن قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقة والمتوفى عنها وأنه على عمومه . قال الجمهور وقد تعارض عموم هاتين الآيتين ، وإذا تعارض العمومان وجب الرجوع إلى مرجح لتخصيص أحدهما . وقد وجد هنا حديث سبيعة المخصص لأربعة أشهر وعشرا وأنها محمولة على غير الحامل وأما الدليل على الشعبي وموافقيه فهو ما رواه مسلم في الباب أنها قالت : ( فأفتاني النبي صلى الله عليه وسلم بأني قد حللت حين وضعت حملي ) وهذا تصريح بانقضاء العدة بنفس الوضع . فإن احتجوا بقوله : فلما تعلت من نفاسها أي طهرت منه ، فالجواب أن هذا إخبار عن وقت سؤالها ولا حجة فيه وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنها حلت حين وضعت ولم يعلل بالطهر من النفاس ، قال العلماء من أصحابنا وغيرهم : سواء كان حملها ولدا أو أكثر كامل الخلقة أو ناقصها أو علقة أو مضغة ، فتنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه صورة خلق آدمي سواء كانت صورة خفية تختص النساء بمعرفتها أم جلية يعرفها كل أحد . ودليله إطلاق سبيعة من غير سؤال عن صفة حملها . } أه . ففتوى أبو السنابل لسبيعة كانت فتوى خاطئة أدت إلى تحريم الحلال ، أى تحريم زواجها طيلة أربعة أشهر وعشرا ، ظنا منه بقاء عدتها ، وذلك على خلاف الدليل . ومن أمثلة ذلك من يفتى بتحريم زواج المطلقة قبل الدخول قبل إنقضاء عدتها مستدلا بقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ? } ( البقرة : 228 ) متغافلا عن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } ( الأحزاب : 49 ) . رابعا : تحليل الحرام :- وقد يؤدى الإفتاء الخاطىء إلى تحليل الحرام ، كمن يفتى بجواز زواج المسلمة من غير المسلم ، بالرغم من قطعية ثبوت ودلالة الأدلة على تحريم ذلك . قال تعالى : { وَلَا تنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ( البقرة : 221 ) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ? اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ? فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ? لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ? } ( الممتحنة : 10 ) وعن المسور بن مخرمة رضى الله عنه قال : { لما كاتبَ سُهَيْلُ بنُ عمرٍو يومئِذٍ ، كان فيما اشترَطَ سُهَيْلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم : أنه لا يَأْتيك منا أحدٌ ، وإن كان على دينِك ، إلا رَدَدْتَه إلينا، وخَلَّيْتَ بيننا وبينَه. فكَرِهَ المؤمنون ذلك وامْتَعَضوا منه ، وأبى سُهَيْلٌ إلا ذلك ، فكاتبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردَّ يومئذٍ أبا جَنْدَلٍ إلى أبيه سُهَيْلِ بنِ عمرٍو ، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرجالِ إلا ردَّه في تلك المدةِ، وإن كان مسلمًا ، وجاء المؤمناتُ مهاجراتٍ ، وكانت أمُّ كُلْثُومٍ بنتُ عُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ ممن خرجَ إلى رسولِ اللهِ يومئذٍ وهي عاتقٌ ، فجاء أهلُها يسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُرْجِعَها إليهم ، فلم يُرْجِعْها إليهم ؛ لما أنزل اللهُ فيهن إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن - إلى قوله - ولا هم يحلون لهن. قال عُرْوَةُ : فأخبرَتْني عائشةُ : أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَمْتَحِنُهُنَّ بهذه الآيةِ : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن - إلى - غفور رحيم. قال عروةُ : قالت عائشةُ: فمَن أَقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قد بايَعْتُك . كلامًا يُكَلِّمُها به، واللهِ ما مَسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المُبايَعَةِ ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه .} ( رواه البخارى ) خامسا : منع من يستحق :- وقد يؤدى الإفتاء الخاطىء إلى منع من يستحق من حقه ، فعن هزيل بن شرحبيل قال : { سُئِلَ أبو موسى عن ابنةٍ وابنةِ ابنِ وأختِ ، فقال: للابنةِ النصفُ، وللأختِ النصفُ وائِتِ ابنَ مسعودٍ فسيُتابِعُني . فسُئِلَ ابنُ مسعودٍ وأُخْبِرَ بقولِ أبي موسى فقال : لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا مِن المُهْتَدين ، أقضي فيها بما قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم: للابنةِ النصفُ، ولابنةِ الابنِ السُدُسُ تكملةَ الثُلُثَيْنِ وما بَقِيَ فللأختِ ، فأتينا أبا موسى فأخبَرْناه بقولِ ابنِ مسعودٍ، فقال : لا تسألوني ما دامَ هذا الحَبْرُ فيكم. } ( رواه البخارى ) ففتوى أبى موسى خاطئة منعت إبنة الإبن من حقها وهو سدس التركة ، ولولا أنه تداركها بالرجوع إلى إبن مسعود ، لوقع فى الحرج . قال إبن حجر – رحمه الله – فى " فتح البارى " : { قال ابن بطال : فيه أن العالم يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يتولى الجواب إلى أن يبحث عن ذلك ، وفيه أن الحجة عند التنازع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب الرجوع إليها ، وفيه ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق والرجوع إليه ، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل ، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة ، وتثبت أبي موسى في الفتيا ؛ حيث دل على من ظن أنه أعلم منه ، قال : ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود ، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله .} أه . ومن أمثلة ذلك من يفتى بوجوب مساواة المرأة للرجل فى الميراث مطلقا ، بدعوى عدم ظلم المرأة ، ولا يدرى المسكين أنه بتسويته بين المرأة والرجل قد منع الرجل مما يستحقه ، ومنح المرأة مالا تستحقه ، ورد حكما على الله ، ودخل تحت وعيده { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } ( النساء : 14 ) ، والحق أن الله سبحانه وتعالى لم يظلم المرأة حينما أعطاها نصف الرجل فى بعض الحالات اليسيرة ، فقد سوى بينهما فى حالات ، وأعطاها أكثر منه فى حالات ، ومنحها ومنعه فى حالات ، وذلك على التفصيل الآتى : 1- فتارة تأخذ نصف نصيب الرجل : كالبنت مع أخيها الذكر ، وكالأم مع الأب مع عدم وجود الأولاد أو الزوج أو الزوجة ، وهو المثال الذي ذكرت ، فترث المرأة هنا نصف الرجل ، لأن الأم لها الثلث حينئذ ، وللأب الباقي وهو الثلثان ، وليس الأمر كما ظننت من تساويهما في هذه المسألة . 2- وتارة تأخذ مثله : كالأم مع الأب في حال وجود الابن ، فللأم السدس ، وللأب السدس ، والباقي للابن . وكالأخ والأخت لأم ، فإنهما يرثان بالتساوي ؛ لقوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } ( النساء : 12 ) 3- وتارة تأخذ أكثر منه : كالزوج مع ابنتيه ، فله الربع ، ولهما الثلثان ، أي لكل واحدة منهما الثلث . وكالزوج مع ابنته الوحيدة ، فله الربع ، ولها النصف ، ويرد الربع الباقي لها أيضا . 4- وتارة ترث ولا يرث : كما لو ماتت امرأة وتركت : زوجاً وأباً وأماً وبنتاً وبنت ابن ، فإن بنت الإبن ترث السدس ، فى حين لو أن المرأة تركت ابن ابن بدلاً من بنت الابن لكان نصيبه صفراً ؛ لأنه كان سيأخذ الباقي تعصيباً ، ولا باقي . وما سبق من الحالات له أمثلة كثيرة تجدها في كتب المواريث . ولله الحكمة التامة فيما قدر وشرع ، { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } ( الأحزاب : 36 ) ومن الحكمة التي يذكرها العلماء في كون نصيب المرأة على النصف من نصيب الرجل في بعض الحالات : أن المرأة ليست مكلفة بالنفقة على نفسها أو بيتها أو أولادها ، ولا بدفع المهر عند زواجها ، وإنما المكلف بذلك الرجل ، كما أن الرجل تعتريه النوائب في الضيافة والدية والصلح على الأموال ونحو ذلك . والله أعلم سادسا : منح من لا يستحق :- وقد يؤدى الإفتاء الخاطىء إلى منح من لا يستحق ، فعن أبى حميد الساعدى رضى الله عنه قال : { أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم استعمل ابنَ الأتبية على صَدَقاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، فلما جاء إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وحاسبه قال : هذا الذي لكم، وهذه هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : ( فهَلَّا جَلَسْتَ في بيتِ أَبِيكَ وبيتِ أُمِّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إن كنتَ صادقًا ) . ثم قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فخطب الناسَ، وحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عليه، ثم قال : ( أَمَّا بَعْدُ، فإني أستعملُ رجالًا منكم على أمورٍ مما وَلَّانِي اللهُ، فيأتي أحدُكم فيقولُ : هذا لكم وهذه هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لي، فهَلَّا جلس في بيتِ أَبِيهِ وبيتِ أُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إن كان صادقًا، فواللهِ، لا يأخذُ أحدُكم منها شيئًا - قال هشامٌ - بغيرِ حَقِّهِ، إلا جاء اللهُ يَحْمِلُهُ يومَ القيامةِ، أَلَا فلَأَعْرِفَنَّ ما جاء اللهَ رجلٌ ببعيرٍ له رُغاءٌ، أو ببقرةٍ لها خُوَارٌ، أو شاةٍ تَيْعَرُ ) . ثم رفع يَدَيْه حتى رأيتُ بياضَ إِبْطَيْهِ : ( أَلَا هل بَلَّغْتُ ) } ( رواه البخارى ) فابن الأتبية أفتى نفسه بجواز أخذ مالا يستحق ، فبين له النبى صلى الله عليه وسلم عدم جواز ذلك . ومن أمثلة ذلك من يفتى بجواز دفع الرشوة مطلقا : بالرغم من أن الأصل في الرشوة أنها محرمة بل هي من كبائر الذنوب ، قال تعالى : { سماعون للكذب أكالون للسُحت } ( المائدة : 41 ) قال الحسن ، وسعيد بن جبير هو : الرشوة . وقال تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } ( البقرة : 188 ) ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : { لعنَ الرَّاشِيَ والْمُرْتَشِيَ } ( رواه الترمذي وصححه الألبانى ) وفي رواية : { والرَّائِشَ يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بينَهما } ، فيحرم طلب الرشوة وقبولها وبذلها كما يحرم عمل الوسيط بين الراشي والمرتشي ، ولكن محل ذلك هو الرشوة التي يتوصل بها المرء إلى إحقاق باطل ، أو إبطال حق أو أخذ ما ليس له . وقد جوز أغلب العلماء دفع الرشوة بشرطين : الأول : أن يدفعها لأخذ حقه ، أو دفع ظلم عنه . الثانى : ألا يستطيع أن يأخذ حقه ، أو يدفع الظلم عنه إلا بدفعها ، فإن أمكنه أن يفعل ذلك بطريق مشروع فلا يحل له دفعها . قال المباركافورى – رحمه الله - فى " تحفة الأحوذي بشرح الترمذي " : { فأما ما يعطى توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه . روي أن ابن مسعود أُخذ بأرض الحبشة في شيء ، فأَعطى دينارين حتى خلِّي سبيله ، وروي عن جماعة من أئمة التابعين ، قالوا لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم ، وفي المرقاة شرح المشكاة : قيل الرشوة ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل ، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه فلا بأس به. } اه وقال ابن حزم - رحمه الله – فى " المحلى " : { ولا تحل الرشوة وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل ، أو ليولي ولاية ، أو ليظلم له إنسان، فهذا يأثم المعطي والآخذ ، فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي ، وأما الآخذ فآثم } اه . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – فى " الفتاوى الكبرى " : { فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه ، كما كان النبي يقول : ( إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قيل : يا رسول الله فلم تعطيهم قال : يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل ) ومثل ذلك : إعطاء من أعتق وكتم عتقه ، أو أسر خبرا ، أو كان ظالما للناس فإعطاء هؤلاء جائز للمعطي ، حرام عليهم أخذه ، وأما الهدية في الشفاعة ، مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة ، أو يوصل إليه حقه ، أو يوليه ولاية يستحقها أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك ، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم ، وهو من أهل الاستحقاق ، ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب ، أو ترك محرم ، فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية ، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه ، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر } اه . سابعا : تشويه صورة الإسلام : وقد يؤدى الإفتاء إلى تشويه صورة الإسلام وتنفير الناس منه ، وسب علمائه ، وذلك إذا افتى بشواذ أقوال العلماء ، أو أفتى بما لاتدركه عقول الناس الآن مع البعد عن حظيرة الإسلام . فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضى الله عنه قَالَ : { مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ ؛ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ } ( رواه مُسْلِمٌ ) ، وعن عَلِيٌّ رضى الله عنه قال : { حَدِّثوا الناسَ ، بما يَعْرِفونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسولُهُ . } ( رواه البخارى ) ومن أمثلة ذلك من يفتى بجواز مناكحة البهائم ، أو جواز نكاح زوجته الميتة ، أو غيرها من الفتاوى التى يقف لها العلمانيون وأذنابهم بالمرصاد ليشوهوا دين الإسلام ، بل ويتمادى كثير من هؤلاء فى تعمد سؤال بعض المفتين عن هذه المسائل حتى يطيروا بها فى الآفاق ، مشوهين للإسلام وأهله . والله أسأل أن يوفق المفتين إلى الوقوف عند حدود الله ، والإفتاء بما يوافق شرعه ، وأن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى أهل العلم الثقات فى كل شاردة وواردة تلم بهم فى دينهم ، ودنياهم . آمين . ** نائب رئيس هيئة قضايا الدولة و الكاتب بمجلة التوحيد