كان السؤال الأكثر إلحاحًا قبل عشر سنوات هو "مصر رايحة على فين؟" وصار ممسوخا من فرط طرحه فى الإعلام، وقتها كان هاجس المستقبل يلح على الناس، ولم يلتقط أحد ذلك ويصنع حركة أو مجموعة أو جماعة أو حتى حزب للمستقبل، وعندما وقعت الواقعة فى 25 يناير، نسى الثوار، ورواد الميدان أن الثورة تبدأ فى اليوم التالى بعد أن يصمت هدير الميدان، كان النشطاء مشغولين بحفلات الزار الفضائية المسائية وحفلات السفارات الصاخبة واجتماعات الائتلافات مع السلطات فى مجلس الوزراء أو المجلس العسكري، وتفرغ نصف المصريين لسب واتهام النصف الآخر، ونشطت عمليات الإنتاج والإبداع على الفيس بوك وتويتر واستبدلوا ما يحدث على الأرض بالفضاء الافتراضى وخلال ذلك كانت محافل النخبة ورواد الحظيرة يقولون كلاما ساكتا تأكيدا على أن وكسة هذه الأمة فى نخبتها، وصار التبرير والبحث عن حلول تلائم انتهازيتهم هى شغلهم، وآخر ما أنتجه خريجوهم كانت مطالبة المرشح الفائز محمد مرسى التنازل لصالح حمدين صباحى، على اعتبار أن الخمسة ملايين و700 ألف من الذين صوتوا للرجل هم سقط قناع أو ما تملك إيمانهم، من حق مرسى التصرف فيهم فى فراش المفاوضات السياسية أو هم حرث لهم من حقهم أن يأتوهم أنى شاءوا... هكذا يتعامل المثقفون وغلمان المعونة وخمارات السفارات مع الشعب ومع جموع الناخبين لكى ينكشف زيف شعارات الشعب، هو المعلم والقائد والذى منه، وفى جلساتهم الخاصة عندما تسلبهم الخمر أقنعتهم يؤكدون أن الأمى والجاهل والعشوائى لا صوت له ولا يعتد بتصويته وقبل عدة أشهر رفضوا الانصياع لنتيجة الاستفتاء ووضعوا السدود والمشاكل أمام كل حل، وبعدها رفضوا نتائج الانتخابات فى مجلسى الشعب والشورى، وعند الاحتكام لقواعد الديمقراطية فى التصويت كانوا كالأطفال يغضبون ويمكرون ويغادرون القاعات انسحابا، هؤلاء قوم يقولون ما يفعلون هم أنفسهم الذين كانوا ترزية وفلاسفة القمع والتعذيب والتبرير لعبد الناصر وصبيانه من بعده، وهم الذين أنتجوا شعارات لا صوت يعلو على صوت المعركة (التى ما انتصروا فى واحدة منها) وهم أنفسهم الذين فرعنوا كل الحكام وكان عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين هما المتحدثان الرسميان لعصر كامل بالأغانى وبعدها "باخترناك"، وهم الذين يصطفون حظيرة فى مبارك وتابعه فاروق حسنى، وكانوا أهم أدوات أمن الدولة فى شيطنة كل ما هو إسلامى سواء كان وسطيا أو متشردا، وهم أنفسهم الذين أبدعوا بمهارة مصطلحات الفلول والثورة المضادة والدولة المدنية والمواطنة ومنعوا أى مصرى من الانضمام لقوى الثورة وسعوا طوال الوقت لخلق عدو يحاربونه لرفع الفاتورة، وبعد الجولة الأولى من الانتخابات، مرر اليساريون شعار أن الاختيار سوف يكون بين الكوليرا والطاعون، وسوف ينزلون للميدان، والفوضى إذا ما جاءت نتائج الانتخابات على غير ما يهوون، مثلهم كبنى إسرائيل وهدد بعضهم باغتيال شفيق أو مرسى والعصيان المدنى، وفى المقابل أصبحت الحساسية المفرطة للإخوان من أى نقد وغابت الرؤية ودخلوا فى عدة معارك فى نفس اللحظة مع الإعلام والقضاء والجيش والشرطة والحكومة، ولم تعد صدورهم تحتمل كلمة نقد واحدة حتى أصبح الإعلاميون كلهم سحرة فرعون، ولم تكلف الجماعة أو حزبها عبء أن توضح للناس أن الإسلاميين لبسوا كتلة واحدة، وأن هناك فصائل متعددة وأن كثيرا من اللغط ومشروعات القوانين قدمها نواب من غير الإخوان وخاصة تلك المشروعات التى أثارت الرأى العام وأعطت الفرصة لكارهى التيار الإسلامى للنيل منهم، وليس صحيحا كما يردد البعض أن ما يحدث من صناعة طرف ثالث، لأن فى تصديق كل عقلى وإبراء الذمة بمعنى أن كل القوى والتيارات فشلت فى الاتفاق على مرشح واحد سواء للثورة أو للإسلاميين أو الليبراليين، ففشلوا وذهبت ريحهم وتفتت الأصوات لأن الأجندات الخاصة كانت أهم من الوطن ومصر واللحظة الراهنة ودخل الجميع الخطايا والاعتراف بالأخطاء المتكررة، ولكن الوقت كان قد تجاوز التوبة والعودة لنقاء الميدان وأيامه، ولكل ذلك لم يعد مرسى أو شفيق يقنعا أحدا حتى من أنصارهما، وبات المشهد مهيأ لكى يطلب الجميع من المجلس العسكرى بلا حياء مد الفترة الانتقالية ليس حبًا فى العسكر ولكن كرها فى أخطاء وبلاهة السياسيين وانتهازيتهم ولسوف يمتنع المجلس العسكرى ويصر على استكمال الانتخابات وسط ترقب لما تسفر عنه نتائج محكمة القرن بعد ساعات ومصير البرلمان من المحكمة الدستورية، وكذلك شرعية قانون العزل من عدمه ليصبح القلق عنوان مرحلة، فإذا اكتملت انتخابات الرئاسة لن يستطيع أحد من المتنافسين الصمود طويلا، وعندها سيصبح الجميع فى انتظار البيان الأول قائلا "بنى وطنى" لتعيد إنتاج الماضى الذى نعشقه ونحن إليه ونبدع فيه أكثر من المستقبل!