لم يتسلل الخوف لديه وهو يتنقل بخطواته الخطوة تلو الأخرى عيناه ثابتتان لامعتان كعادته السواد الذى تحت عيناه أبدا لم يطفئ يوما هذا البريق .. أتجه نحو غرفته التى تم تخصيصها له فى ذلك المشفى الدولى الكبير .. بعد أن أنهى الإجراءات اللازمة لإجراء جراحة خطيرة .. علت الإبتسامة وجهه وهو يقابل إحدى الممرضات .. سألها عن الغرفة 5433 فدلته بإبتسامة مصلوبة على شفتيها المكتنزتين .. ذهب أدراجه وفى يديه حقيبة صغيرة سوداء تحوى بعض الملابس والأغراض الشخصية .. إلتفت يمنة ويسرة وارتفع بعينيه نحو أرقام الغرف 540،541،542 ..ثم ها هى 543 .. دفع باب الغرفة داخلا بخطى تباطئت قليلا لتتجول نظراته فى تلك الغرفة البيضاء بالكامل .. السرير ومفروشاته بيضاء .. الدولاب أبيض .. الكومدينو أبيض .. حتى الكرسى الوحيد الذى يجلس منفردا قبالة التلفاز كليهما أبيض .. ورغم لونها الأبيض إلى أنها صامتة صمت القبور .. واندفع نحو النافذة وتعطلت قدماه لعله تعثر .. لكنه لم يتعثر فى شىء ! فتح النافذة ليفتح معها صدره ليستنشق هواءا من النيل الذى يشق وسط القاهرة على أطراف القاهرة فى ضاحية المعادى ... ألقى بجسده المثقل بالهموم على السرير رافعا بصره نحو السماء مخترقا صوته جدار الصمت مبتهلا لرب السماء : يارب .. وكفى ثم علت طرقات خاطفة على باب الغرفة أناملها كانت لممرضة تبدو ف الثلاثين من عمرها ممشوقة القوام تحاول أن تبدو مبتسمة لكن إبتسامتها بدت كأوراق الخريف ..مخاطبة الذى إعتدل جالسا : حضرتك أستاذ سيف نور الدين ..؟ أجاب : نعم أنا .. أخبرته بأن هناك بعض الفحوصات الواجب إجرائها فورا تمهيدا للجراحة .. إبتسم ملبيا متجها معها نحو طبيب شاب بدا عليه الذوق وخفة الظل حين بادر سيف قائلا .. مش حانعطلك كتير كلها دقايق تم الإنتهاء من الفحوصات وعاد للغرفة 5433 جلس على المقعد الجلد الأبيض الوحيد فى الغرفة الذى يجلس صامتا. . أغمض سيف عينيه ورجع بذاكرته عقدين من الزمان .. حين رافق شقيقه الأصغر لإجراء جراحة فى القلب .. فتذكر الأنات والآهات والآلام التى عاشها معه ليل نهار تنطلق من جوف أخيه لتستقر فى صدره هو فيشاطره إياها .. كلما إنتفض جسد شقيقه بالحمى شعر بها تتسلل إلى جسده ولم تبارحه من وقتها .. حتى فاضت روحه البريئة وهو ملقى فى حضن سيف يمسك به ويشق تلك الضلوع فسقطت الدمعة تسابق أختها من عينيه لخدود صامتة بدأ يتسلل إليها البرود وملامح جميلة ما زالت لشاب فى ال21 من عمره .. فشعر من ليلتها أنه يعيش بنصف روح .. واغرورقت عينيه بالدموع وهو ينادى بإسم أخيه : الله يرحمك يا من كنت أجمل ما فيا .. قام بتغيير ملابسه متناولا منشفته متجها للوضوء وصلى ركعتين ثم دعا لشقيقه بالرحمة والمغفرة .. ودعا لأبيها بالرحمة ثم دعا لها .. تلك الغائبة الحاضرة دائما ابتسم قليلا عندما تحركت شفتاه بحروف إسمها الخمس_لم يحب غيرها خضراء العينين .. تذكر كل شىء .. كل الحب وكل الغضب .. كل الوجد وكل البعد .. الحب الذى جمعهما والظروف التى حالت دونهما .. الألم الذى أوجعهما .. والحب الذى كلما افترقا ارجعهما .. قطع تفكيره صوت الممرضة وهى تطرق غرفته مرة أخرى .. لم يعلم كم من الوقت ذهب بتفكيره وذكرياته آلامه وأحلامه .. أبلغته وكأنها حاجب فى المحكمة بإسمه وبلقبه أن يتجهز لأن غرفة العمليات جاهزة وطلبت منه التوجه معها استعدادا للعملية .. استأذنها فى صلاة ركعتين .. قام فصلى ودعا ثم توجه معها .. مستقبله طبيبه الجراح الذى داعبه مازحا مخففا لكن سيف تعلو الإبتسامة وجهه. . جاء طبيب التخدير .. رقد مسلما بدأ مفعول التخدير يسرى فى جسده شيئا فشيئا. . تناولته أكثر من ثمان أياد لأربع جراحين. . استمرت الجراحة قرابة سبع ساعات .. وفجأة هبط الضغط هبوطا مفاجئا .. علت صيحات الأطباء نحو إجراء الإسعافات وضخ كثير من الدم وإجراءات تنفس صناعى .. وارتسمت ابتسامة فوق شفتى سيف ودار شريط حياته أمام مخيلته فى لحظة .. ......