من طبائع السلوك الإنسانى أن الأوقات الصعبة أو العصيبة تخرج دائماً أفضل وأسوأ ما فيه. واستطاعت الثورة وتداعياتها والأحداث والمتغيرات المصاحبة لها أن تضع ما يكفى من الضغوط علينا جميعًا حتى طفا على السطح أسوأ ما يكمن فى حياتنا. لست أظن أن ما حدث من انكشاف لقاع البئر، كان مفاجأة بأى حال من الأحوال. فسنوات وعقود متصلة من قمع للحريات، وإعلام مباع ومبتذل، واستهلاك رخيص لقيم الدين السامية لتحقيق أهداف سياسية وزعامية، وضغط اقتصادى متواصل على الإنسان العادى، كل هذه الضغوط وغيرها أفرخت فى النهاية الحالة المأسوية للشارع السياسى والاجتماعى والأمنى على حد سواء. "انتهازيون بلا ضمير ولا مبادئ"، صارت هذه هى اللافتة التى يرفعونها دون أى إحساس بالعار أو الخجل مع مواصلة الدفاع عن مواقف مؤسفة بمزيد من التبريرات الأكثر أسفًا. لقد انكشفت كل الأغطية وسقطت كل الأقنعة وأثمرت بذور الكراهية، مرارةً وانتقاماً ورفضاً للآخر. وأصبحنا فى وضع يدفع إلى التشاؤم وليس فيه ما يبعث على الأمل. كثير من المتشائمين فى مصر يرون أنه لا أمل فى الخروج من هذا الوضع، وأن ما مرت به البلاد على مدى عقود كان له أثر مدمر للإنسان وهادم لروحه، ولم يعد هناك أملٌ فى إصلاح ما فسد. وكان العام المنصرم بعد الثورة حافلاً بتطورات تدعم رؤيتهم ولا تترك لهم بارقة أمل أو ضوءاً فى نهاية النفق. حتى المتفائلون يعانون الأمرين بحثاً عن حجج يدافعون بها عن تفاؤلهم، وأعيتهم الحيل وشارفوا على رفع رايات الاستسلام لجحافل الانتهازيين وسدنة الاستبداد وإن اختلفت صوره وأشكاله. صار المتفائلون يرددون أبيات الشاعر المصرى الكبير أمل دنقل فى قصيدته الخالدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة": "لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد! وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى .. ودمعة سدى!" كان دنقل ابن الجنوب شاعراً ثائراً، اشتهر فى سبعينيات القرن الماضى بأشعاره التى ألهمت الشباب الثائر على الأوضاع القائمة فى مصر فى ذلك الوقت، وعندما كان تيار اليسار فى الجامعة وبين المثقفين يخوض معركة ضارية فى مواجهة نظام السادات وشباب الجماعات الإسلامية الناهض فى الجامعات المصرية، والذى كان عداؤهم لليساريين والمتحررين فى الجامعة أشد من عدائهم للنظام وسطوته. ووجد النظام حينذاك ضالته المنشودة بعد أن أعيته الحيل فى مواجهة معارضيه من الثائرين، لاسيما أنه كان من الصعب تحدى مطالبهم التى كانت تتلخص فى الحرب لتحرير أرض فى سيناء وفى تحقيق العدل فى مجتمع بدأ يتمايز طبقياً بعد هزيمة عام 1967 مباشرة، وما صاحب هذا التمايز من انقلاب للقيم والمعايير وانفلات للغرائز سعياً وراء المال وأحلام الثراء فى ظل أزمة اجتماعية تتفاقم يومًا بعد يوم. ليس فى الأمر مؤامرة.. ولا نتفق مع ما يذهب إليه البعض من أن الرئيس الراحل أنور السادات صنع تيار الجماعات الإسلامية فى الجامعات المصرية لمحاربة التيارات اليسارية والتحررية.. كل ما فى الأمر أن إرادة النظام والجماعات الإسلامية اتفقت فى ذلك الوقت فى مواجهة العدو المشترك.. ولم يدرك شباب الجماعات الإسلامية فى ذلك الوقت أنهم معول فى يد النظام لهدم تيار سياسى له وجود فى المجتمع وأفكار وجودها فى أى مجتمع ضرورى لترشيد سلوك حكامه وطبقاته صاحبة النفوذ الاقتصادى والاجتماعى.. لم يجد هؤلاء الشباب الغر شيوخاً يبصرونهم بعواقب ما يفعلون، بل كان هناك من يزين لهم ما يفعلون ويشجعهم، فى وقت اشتدت فيه الحرب الباردة وتحولت بنهاية عقد السبعينيات إلى حرب ساخنة بالوكالة فى أفغانستان.. وكانت النتيجة تجريفًا ثقافيًا هائلاً تعرضت له مصر بعد تدمير جيل حمل لواء الثقافة من شيوخ رحلوا ولم تتح له الفرصة لنقل اللواء لجيلٍ جديدٍ، ووضعت الجماعات الإسلامية نفسها أو وضعها آخرون فى موقع الشبهات فى هذه المعركة ولم تتغير هذه الصورة رغم القمع الذى تعرضت له هذه الجماعات ومن يقف وراءها من تيارات للقمع والتنكيل على يد النظام عندما انتقلا إلى مرحلة الصدام.. لم يتوقف الأمر عند حدود التجريف الثقافى وتدمير أسس بناء ثقافة وطنية تدفع المجتمع للتقدم والنهوض وتستكمل بناء مقومات الدولة الحديثة القائمة على المواطنة، وإنما طال أسس التعايش بين أبناء الوطن مع علو الرابطة الدينية والانتماء الدينى على الرابطة الوطنية، وبدأت الطائفية تزحف فى مجتمعاتنا لتصبح السمة الغالبة فى شتى جوانب حياتنا. كانت هذه نتيجة حتمية لما حدث وإن لم يسع إليها أحد.. فصعود الجماعات الإسلامية كان الوجه الآخر لهيمنة الاستبداد السياسى، وصعود الطائفية كان الوجه الآخر لصعود التيارات الإسلامية.. حدث هذا دون تخطيط مسبق، وإنما نتيجة لتوافق الظروف والإرادات والمصالح. ولا نقصد من هذا العرض توجيه اللوم لتيار وتحميله مسئولية ما يحدث، ولا تصفية الحساب مع أحد، فهذه روح لا تساعد على التفكير فى مخرج من المأزق الذى أصبحنا فيه وأمسينا.. وإنما القصد هو الإشارة إلى الخطيئة الأصلية والعلة الأولى والمصدر الأصلى للشرور ونعنى به الاستبداد السياسى والقهر الاجتماعى، الذى تلاعب بكل غال ونفيس وبكل مقدس وسام من أجل الاستمرار.. هذا الاستبداد الذى يسلب من الإنسان حريته هو العدو المشترك الذى يجب أن تتوجه إليه أسلحة المتطلعين إلى حرية الإنسان ورقيه وسعادته. وبدون هذا لن تستقيم الأمور، وطالما ظل هناك من يعتقد أن فى مقدوره الاستفادة من هذا الاستبداد لن تفتح الأبواب كى يخرج أبناء الوطن أفضل ما فيهم. هذا الأفضل موجود فينا وبيننا، ومن لا يصدق يعاود النظر إلى الأيام المجيدة التى سبقت الإطاحة بالرئيس حسنى مبارك.. أن ينظر إلى ميدان التحرير وميادين مصر وشوارعها وساحاتها خلال 18 يوماً بين 25 يناير و11 فبراير 2011. ومن لا يؤمن بأن الأفضل يمكن أن ينتصر على الأسوأ عليه أن ينظر إلى المعارك بين الجيل المتطلع للمستقبل وبين قوى الاستبداد وسدنته فيما عرف بمواقع الجمل، فى ميدان التحرير وفى غيره من ساحات الثورة فى ربوع مصر.. حدث هذا عندما هب المصريون لمواجهة العدو المشترك.. الاستبداد والقهر.. ونجحوا فى تدمير آلة الاستبداد والقهر الرئيسية فى جمعة الغضب الأولى (28 يناير 2012) وما تلاها من مظاهرات مليونية.. فأين ذهبت هذه الروح ولماذا أزاح الأسوأ الأفضل؟ حدث هذا، فى تقديرى، لأنه لا يزال هناك من يعتقد أن من الممكن مهادنة الاستبداد والاستفادة منه، وأن هناك من أغرته أضواء السلطة الباهرة فانجذب إليها فأحرقته كما تحرق النار الفراشات التى تقترب منها معتقدة أنها ضوء النهار.. حدث هذا لأن هناك مَن لم يتعلم دروس التاريخ القريب والبعيد، ولأن التجريف دمر مع ما تحقق لنا من تراكم معرفى يعيننا على الرؤية. فى عالم السياسة، لا توجد مشكلة فى أن يخطئ هذا التيار أو ذاك الحسابات فالخطأ وارد، لكن الأهم هو الاستعداد للإقرار بالخطأ والسعى لإصلاحه وتصحيحه. ولكن يتعذر هذا الإصلاح وذلك التصحيح، إذا لم يكن هناك إدراك للخطأ، وإذا توافرت الإرادة لتصحيحه فإنها لا يمكن أن تتحقق بدون رؤية ونظرية للمعرفة، ورغبة صادقة بالعمل من أجل المستقبل وتفضيله على اللحظة الراهنة، بدلاً من التعامل معه ومع وكلائه من الأجيال الجديدة كأعداء نسعى لإحراقهم وقتلهم.. هذه الرؤية مستحيلة دون تقدير لقيمة الحرية واتساع الأفق.. فهل ضاعت الفرصة واستحكم الأسوأ إلى حد ضاع معه الأفضل وإلى الأبد؟ هل افتقد هذا المجتمع لكل القيم الداعمة للمستقبل والتقدم؟ هل استحكمت حلقات الأزمة وضاقت وغلب الظن بأنها لن تنفرج، ولم يعد للأمل والتفاؤل مكان بيننا؟ أم أن هناك بصيصًا من الأمل يعطى دفعة للمتطلعين إلى التغيير من أجل غد أفضل؟ أعتقد أن الأمل موجود وقائم ومن الممكن وضع أسس لنهضة حقيقية إذا ما كان لدينا معرفة بشروط تلك النهضة وأسسها معرفة مؤسسة على دراسة معمقة لتجارب المجتمعات المختلفة التى حققت نجاحًا فى مواجهة مثل هذه الأزمات، ومعرفة بالمقومات والعوامل الدافعة لها.. نحن بحاجة إلى نخبة تؤمن بهذه القيم وتشعل ثورة تفتح الباب لإصلاح جذرى للمجتمع والفكر وإعادة بناء الإنسان والعقل. نحن بحاجة لأن تنفتح عيوننا على الحقيقة، لنكتشف أننا خدعنا بالشعارات الدينية والسياسية، لتصير بنا الأمور إلى ما نحن عليه الآن. نحن بحاجة إلى استفاقة ذهنية نعيد بها كل حساباتنا لكى نختار رئيساً وبرلماناً ذوى عقول ورؤية ثاقبة يستطيعان قيادتنا إلى الحرية والتقدم والتحضر. رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]