فجَّر الإخوان المسلمون قنبُلة شديدة الدوىّ ولها وقْع قوى على الساحة السياسية المصرية، وتباينت ردود الأفعال حيالها بين متوقع لهذا القرار الكبير، ومصدوم منه، ومتحفظ عليه، وانهالت الجهات المغرضة - وما أكثرها! - بإفراغ ما لديها من اتهامات جاهزة ومعدَّة سلفًا لمثل هذه المواقف فى وجوه الإخوان المسلمين كما تعوَّدنا دائمًا فى الهجوم على الإخوان، وهذا أمر طبيعى، وهذه ليست المرة الأولى التى يُهاجم فيها الإخوان بسبب قرار اتخذوه، ولن تكون المرة الأخيرة، وعلى الإخوان أن يوطّنوا أنفسهم على هذا العداء المستمر طالما ارتضوا لأنفسهم أن يتصدروا المشهد السياسى فى مصرنا الحبيبة. والكثيرون من المنتقدين - ولهم الحق الكامل فى الانتقاد - يرون أن الإخوان تراجعوا عن قرارهم السابق بعدم ترشيح أحد منهم لمنصب الرئاسة، وهؤلاء يرون أن هذا خلقٌ لا يصح أن يصدر من الإخوان المسلمين، وهذا فى الحقيقة كلام فى غاية الغرابة يُشعرنا وكأن الإخوان تنازلوا عن مبدأ من مبادئهم الأساسية التى لا تقبل التبديل ولا التغيير، وهذا لم يحدث إطلاقًا ولن يحدث أبدًا إن شاء الله تعالى، فالمبادئ لا تتبدل ولا تتغير ولا تقبل المساومات، ولا تخضع للصفقات، لكن الذى يتغير هى السياسات والتكتيكات والاستراتيجيات، وهذا أمر متعارَف عليه فى عالم السياسة فى كل أرجاء الدنيا قديمًا وحديثًا، حيث تخضع كل هذه الأمور لقاعدة المصالح والمفاسد وللظروف والمستجدات الداخلية والخارجية طالما أن القرار فى النهاية لا يُراد به إلا وجه الله تعالى ثم مصلحة الوطن والمواطنين بعيدًا عن الاتهامات والمزايدات. وقبل الحكم على الإخوان وقرارهم السياسى الجديد لا بد من معرفة الظروف التى دفعتهم إلى تغيير قرارهم بعدم ترشيح أحدهم لمنصب الرئاسة، لقد كان القرار السابق ضمانًا لنجاح الثورة التى شاركوا فيها بكل قوة مع جموع الشعب المصرى، وكان طمأنةً للداخل والخارج الذى كان يتخوَّف من الإخوان بسبب حملات التشويه التى كان يمارسها النظام البائد، ومازال يمارسها الإعلام المأجور غير المنصف، ثم مر عام على هذا القرار - الذى اتخذه الإخوان بالشورى - انتخب الشعب خلال هذا العام ممثليه فى انتخابات حرة نزيهة؛ لتكون النتيجة فوز الإسلاميين بأغلبية برلمانية، ليدل هذا على المِزاج العام للشعب المصرى الذى يريد العودة إلى أصوله وثوابته، لكن هذا لم يُرضِ البعض فحاولوا الوقيعة بين الشعب وممثليه بافتعال الأزمات لإظهار البرلمان أمام الشعب بمظهر العاجز عن تحقيق مصالح المصريين وطموحاتهم، وتكون المحصلة توجيه سهام الانتقاد نحو الإخوان باعتبارهم يشكلون الأكثرية داخل البرلمان، وهنا كان لا بد من التحرك الفورى من جهة الإخوان وغيرهم من القوى السياسية للتخلص من الجهة التنفيذية الممثلة فى حكومة الجنزورى، التى لم تحقق شيئًا للمصريين على الرغم من الفرص الكثيرة التى أُتيحت لها، فكان القرار بضرورة تشكيل حكومة إنقاذ وطنى تضم كل القوى والتيارات السياسية، لكن المجلس العسكرى رفض هذا القرار وأصر على الإبقاء على حكومة الجنزورى، على الرغم من تقصيرها فى التعاطى مع هموم المواطن المصرى واحتياجاته الضرورية، مما أعطى مؤشرًا بأن هناك قوى تموِّه على الناس وتسعى إلى خداعهم وتريد إجهاض الثورة وإعادة النظام السابق فى ثوب آخر وشكل جديد. أضفْ إلى ذلك تلكم المحاولات الكثيرة للإخوان فى التفاوض مع العديد من الشخصيات العامة لإقناعها بالترشح لمنصب الرئاسة، لكن هذه الشخصيات رفضت، مما حدا بالإخوان إلى ضرورة تغيير قرارهم السياسى نتيجة الواقع الجديد والمستجدّات الطارئة، فدفعوا بمرشح للرئاسة؛ ليتحملوا المسئولية كاملة أمام الشعب المصرى دون توانٍ أو تقاعُس، والغريب أن يُوَاجَه كل هذا الجهد والعمل المتواصل بالسخرية والاستهزاء من أطراف كثيرة، لكن حسب الإخوان أنهم يحتسبون جهدهم وعملهم لله، فهو وحده سبحانه يعلم ما فى القلوب ويجازى على الأعمال، يقول جل شأنه: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعَمَلُونَ" [سورة التوبة: 105]. فمن حق الإخوان كغيرهم من القوى السياسية أن يرشحوا مَن يرونه مناسبًا لهذا المنصب المهم، وقادرًا على الأداء والإنجاز، وذا كفاءة وقدرة ومؤهلات تساعده على تنفيذ المهام المنوطة به فى هذه الفترة الحرجة التى تمر بها البلاد، فمنصب الرئاسة ليس عورة لا يصح النظر إليها، وليس حكرًا على أحد، وليس حرامًا على الإخوان وحلالاً لغيرهم؛ لأن العبرة فى النهاية بخواتيم هذه الأعمال، والكلمة النهائية ستكون للشعب المصرى الواعى. د. محمد على دبور [email protected]