بدي محياك الذي قسماته حق وغرته هدي وحياءُ ياأيها الأميٌ حسبك رتبة في العلم أن دانت لك العلماءُ ذعرتَ عروش الظالمين فزلزت وعلت علي تيجانهم أصداءُ أدعوك عن قومي الضعاف لأزمةٍ في مثلها يُلقي عليك رجاءُ _ يقول الإمام محمد الغزالي السقا رحمه الله :هناك عظماء كثيرون يقرأ الناس قصص حياتهم ليتملّوا من عناصر النبوغ فيها، وليتابعوا بإعجاب مسالكها في الحياة، ومواقفها بإزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب، وقد تكون هذه القراءة المجرّدة هي الرباط الفذّ بين أولئك العظماء ومن يتعرّف عليهم،.. لكن دراسة سيرة الحبيب محمد، أو تدريسها لايجب أن تقف عند هذه النظرة المحدودة ، لتصور لنا جملة من الدلائل علي صدقه، وتكشف عن عبقريته وسناء دعوته. لأن معرفة السيرة علي هذا النحو تعد قشوراً خفيفة، لا تحرك القلوب، ولا تستثير الهمم، ليصبح تعظيم النبيٌ صلي الله عليه وسلم وصحابته علي هذا النحو وليد تقليد موروث ومعرفة قليلة ، فيكتفي بهذا التعظيم بإجلال اللسان أو بما قلت مؤنته من عمل، ومن ثم تكون معرفة السيرة علي هذا النحو التافه يساوي الجهل بها. _إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول سيرة رسول الله إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى.إن حياة محمد صلي الله عليه وسلم ليستبالنسبة للمسلممسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا؛ إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها، فأيّ حيف في عرض هذه السيرة، وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه. _لابد وأن نعيد أسلوبنا في قراءة السيرة وتدريسها لنستفيد منها بالشكل الذي نبني به الأشخاص علي النحو الذي نأمله، حتي نستطيع أن نعيد بناء مجد أمتنا ودولتنا علي الصورة التي نحلم بها،لا سيما ونحن أمام أعيننا مناظر قاتمة من تأخر المسلمين العاطفي والفكري، ولن يتأتي ذلك إلا إذا جعلنا من السيرةشيئا ينمّي الإيمان، ويزكّي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له، وهي فعلا تضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله. _ وإذا ما رجعنا ثانية للعلامة الراحل محمد الغزالي وهو ينبهنا علي القيمة الحقيقة لسيرة رسول الله محمد، نجده يقول :ومحمد صلي الله عليه وسلم ليس قصة تتلى في ميلاده كما يفعل الناس الآن، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي قد تضمّ إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبّه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوّهون أو لا يتأوهون!. _ فرباط المسلم بالرسول الكريم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين، وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير في الإبانة عن تعلقهم بنبيّهم إلا يوم أن تركوا اللباب المليء وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال؛ ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام، فقد افتنّوا في اختلاق صور أخرى، ولا عليهم؛ فهي لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه، إن الجهد الذي يتطلّب العزمات هو الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته، فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه، وإصلاح شأنه، حتى يكون قريبا من سنن محمد صلي الله عليه وسلم في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته.... _ إنّ المسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة. وأريد هنا أن أنبّه إلى ضرورة الفصل بين الجد والهزل في حياتنا، ولا بأس أن نجعل للهو واللعب وقتا لا يعدوه، وللجد والإنتاج وقتا لا يقصر عنه.فإذا أراد أحد أن يغنّي أو يستمع إلى غناء فليفعل، أما تحويل الإسلام نفسه إلى غناء؛ فيصبح القران ألحانا عذبة، وتصبح السيرة قصائد وتواشيح، فهذا ما لا مساغ له، وما لا يقبله إلا الصغار الغافلون. وقد تمّ هذا التحوّل على حساب الإسلام، فانسحب الدين من ميدان السلوك والتوجيه إلى ميدان اللهو واللعب، وحقّ فيمن فعلوا ذلك قول الله عز وجلّ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: 70] . _ أما تحوّل القرآن إلى تلاوة منغومة فحسب، يستمع إليها عشّاق الطّرب، هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الافاق، وهم واثقون أنه لن يحيي موتى.وتحوّل السيرة إلى قصص وقصائد غزل، وصلوات مبهمة؛ جعل الاستماع إليها كذلك ضربا من الخلل النفسي، أو الشذوذ الناشئمن اضطراب الغرائز، وفساد المجتمع.وخير من هذا كله أن يستمع طلاب الغناء إلى اللهو المجرد، والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجادّ المهيب طلبوه من مصادره المصفّاة: قرآنا يأمر وينهى ليُفعل أمره ويُترك نهيه، وسنّةً تفصّل وتوضح ليسار في هديها وينتفع من حكمتها، وسيرة تنفح روادها بالأدب الزكيّ والقواعد الحصيفة، والسياسة الراشدة ،وذلك هو الإسلام.