_لقد جعل علماء السياسة الشرعية العلم ،والحلم،والعدل من أهم شروط رئاسة البلاد،وأخطرهاعلي حد سواء. أما العلم فتضح به الأمور الخفية،ويتمكن الحاكم من إتمام سلطانه علي نحو تمنع السخرية منه ،يقول الحسن البصري في ذلك :"إن هذا العلم يزيد الشريف شرفاً،ويبلغ بالمملوك مقام الملوك".ولهذا لم يقل الله جل في علاه لنبيه في أمر من الأمور "قل ربي زدني" إلا في العلم، فقال الله تعالي لنبيه: {وَقل رب زِدْنِي علما}.ومن ثم فمن أراد أن تكتمل سلطنته وإمارته، ينبغي له أن يكون عالما، فإن حدث وتولي زمام الأمر غير عالم لسبب ما وجب عليه أن يكون حريصا علي حب العلماء وحضورهم عنده، ويقبل نصيحتهم،وفي ذلك يقول الإمام سفيان الثوري :"خير الملوك من جالس العلماء". وقيل إن جميع الأشياء تتجمل بالناس،والناس يتجملون بالعلم .فلا غرو ولا غرابة أن يكون المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا ماتكلم ظهر، وبان للناس، فرغم محاولة تمسحه وادعائه العلم إلا أن الندوات الثقافية، والمؤتمرات العلمية،واللقاءات الجماهيرية تفضحه،وتكشفه. ويكفي الرئيس والحاكم فخراً أن سمي الله العالم أميراً، وأوجب علي الناس طاعة العلماء،كما أوجب عليهم طاعة الأمراء (وطاعة العلماء هنا طاعة حب لما يقوم به العالم من دور تنويري توعوي، لا طاعة إلزام) ، وقد أجمع المفسرون علي المراد بأولي الأمر في قوله سبحانه(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَسُولَ وَأُولِي الأَمرَ مِنكُم) هم العلماء والأمراء. _فعلي رئيس الدولة أن يعلم أن خطر الرئاسة والحكم عظيم،وخطبها جسيم ،ولن يسلم من هذا الخطر إلا إذا خالط العلماء المخلصين في كل فنون العلم عامة، وعلماء الفقه والشريعة بشكل خاص، لأنهم أجدر الناس الذين يأخذون بيده بعيداً عن هذا الخطر،ويضعونه من المسؤلية موضعها الرصين، إذا أخطأ ، أو اعوج أخذوا علي يديه،وقوموه ،فينتفع هو وتنتفع بهم البلاد، فهؤلاء من نزل في حقهم قول الله سبحانه :( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). _وفي المقابل عليه محاذرة علماء السوء والسلطان، الذين يزينون له سوء عمله ،بثنائهم عليه في كل ما يقول ويفعل حتي جعلوه نبياً ورسولاً ،حتي وإن خالف قوله أو فعله العقل والمنطق،لا أقول الشرع والدين. ومايفعلون ذلك إلا زلفي إليه طمعا فيما بين يديه ،لأن أمثال هؤلاء العلماء أفعالهم منسوبة إلي الرئيس ،كما قال صلي الله عليه وسلم :" المرء علي دين خليله" ،وقال علي رضي الله عنه :" قصمي ظهري رجلان ناسك جاهل يدعو إلي جهله، وعالم فاسق يدعو إلي فسقه بعلمه"، فإذا كان علي رضي الله عنه يخشي الفساق والمنافقين من العلماء، أليس من الضروري أن غيره من الروساء والزعماء أخشي وأخوف ؟!! _إن حال أمثال هؤلاء المنافقين من العلماء مع الرئيس كحال سحرة فرعون مع فرعون، الذي أبي أن يجالس العلماء المخلصين،وأبي أن يستمع لصوت الحق ،فاختار أن يستشير علماء الفتنة من السحرة في أمر من رآهم في نظره قلة من المارقين المعارضين له ولسياسته ،وكانوا في نظره مجرد شرذمة من أراذل الخلق،فوعده السحرة أن يغيبوا عقول الناس بفعل السحر، مقابل أن ينالوا منه المال والقرب، فكانت النتيجة مأساوية! غرق في النهاية فرعون،وجنده ، لماذا ؟ لأن المنافقين، والمخادعين زينوا له سوء عمله،وحسب هو بذلك أنهم يحسنون صنعاً .يقول الله سبحانه في تصوير حال الحاكم مع مستشارين السوء في سورة الشعراء :" قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114). _ وتاريخ الإسلام ، وميراث الفكر السياسي الشرعي مليئ بنماذج العلماء المخلصين الذين امتثلوا لأمر الله خير امتثال،فبينوا للناس عامة وللرؤساء والزعماء خاصة العلم فلم يكتموه، ولم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ،فسعدت بهم البلاد والعباد.وهذا نموذج للعلماء المخلصين الذين نصحوا رئيسهم دون خوف من بطش، أو طمع في رجاء،يدخل علي رئيسه في هيبة العلماء، وينصحه في أمانة تكسوها قوة الفصحاء،إنه الأحنف بن قيس يدخل علي معاوية قصر الرئاسة ، لينبهه وينصحه، ويأخذ علي يده،وأترك للقارئ المشهد يصوره لنا ابن الوليد الطرطوشي المالكي(ت520ه) في كتابه سراج الملوك ،لنري كم سيغير هذا الموقف من شخصياتنا،وشخصية العلماء،والرؤساء باعتباره موقف يجسد الحال والأحوال في وضوح تام. دخل الأحنف بن قيس على معاوية وعليه شملة ومدرعة صوف. فلما مثل بين يديه اقتحمته عينه فأقبل عليه فقال: مه! فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين، أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير، مع تتابع من المُحُول(الأراضي المجدبة اليابسة بسبب قلة المطر) واتصال من الدخول(مصادر الدخل والمال)، فالمكثر منها قد أطرق (يعيش في رخاء) والمقل منها قد أملق(يعيش في فقر وعدم). وبلغ به المخنق(كاد الفقر أن يخنقه)؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير ويجبر الكسير ويسهل العسير، ويصفح عن الدخول(الضرائب) ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء ويزيل اللأواء(الكرب أوالمصيبة أوالبلوي). ألا وإن السيد من يعم ولا يخص(أي أن الجميع لديه سواسية، فيطبق القانون علي الجميع، لافرق بين وزير وخفير)، ويدعو الجفلى(أي إذا أقام مأدبة دعا إليها الجميع،الفقير قبل الغني،والضعيف قبل القوي) ولا يدعو النقرى(أي لا تكون دعوته لمأدبة ما خاصة ببعض الأفراد والأشخاص)، إن أحسن إليه شكر وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء الرعية عماداً يدفع عنهم الملمات ويكشف عنهم المعضلات. فقال معاوية: ها هنا يا أبا بحر، ثم قرأ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وإلي لقاء قادم مع الرئيس والحلم.