(ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه فى مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس فى أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه فى مكانه، وهذا حل حصيف رضى به القوم). [الرحيق المختوم: المباركفورى]. هذه الحادثة المعبرة نتذكرها الآن ونحن نرى القوى السياسية اللاعبة على المسرح السياسى المصرى الآن، وهى تتصارع وتختلف بل وتتخاون حول قضايا متشابكة باتت ملحة مثل: 1-من هو الرئيس التوافقى؟ 2-من يحدد هذا الرئيس التوافقى؟ 3-من الأحق بتشكيل لجنة الدستور؟ 4-ممن تتشكل لجنة الدستور؟ 5-ممن ستتشكل الحكومة القادمة؟ وذلك بعد أن ازدادت وتيرة الهجوم على الإعلان الدستورى؛ خاصة اللغم الذى يتضمنه فى المادة (28) الخاصة بصلاحيات لجنة الانتخابات الرئاسية؛ حتى أن التشكيك أصاب من أيدوه ب(نعم) وغالبيتهم من الإسلاميين؛ حتى من فرط الهجوم الإعلامى الكاسح من أصحاب (لا) وغالبيتهم من الليبراليين، استشعر أصحاب (نعم) شىء من الندم والتراجع إلى مواقع الدفاع. حيرة قريش أصابتنا!: وعندما نتأمل حالة التشاكس التى تمر بها القوى السياسية خاصة الإسلامية وهى تبدو حائرة ومترددة؛ حتى غدت كل منها تخشى أن تتقدم وتبادر فتحاول حل أى من الإشكاليات والتحديات التى ذكرناها؛ فتجد كل السهام قد حاصرتها وحملات التخوين والتشكيك قد لوثتها والاتهامات قد لاحقتها والتخوفات قد التفت حول عنقها لتخنقها. وكأن القوم تفرغوا لتساقط زلات الآخرين ولنصب الشراك فى طرق بعضهم البعض! ولكن هل كانت قريش أذكى فى الخروج من ورطتها؛ حيث: 1-استمعوا لصوت أحدهم وتجمعوا على رأى رجل من بنى مخزوم، رغم اختلاف البطون القرشية. 2-رضوا برأى القادم، ولم يمنعهم أن يكون الحبيب صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم. 3-كان الحل الرائع من الحبيب صلى الله عليه وسلم هو أن يشارك الجميع فى حل المعضلة بالمشاركة كلهم فى حمل الحجر، ولم يتنصل فريق ولم ينسحب ولم يشكك فى الحل الناضج. 4-انتهت المشكلة ولم نسمع عن تراجع البعض أو رفضهم لما أنجزوه جميعاً وبالمشاركة. فهل ستصيبنا رجاحة وتعاون قريش فنخرج من حيرتنا؛ أم سيكون نصيبنا فقط هو إصابتنا بحيرتهم وورطتهم وتشاكسهم وتنازعهم؟! لعنة العمدة: قرأت فى إحدى الأدبيات القديمة؛ أن إحدى القرى التى كانت تتنازع القيادة والزعامة فيها عدة تجمعات عائلية، متشاكسة ومتناحرة ولم يجتمعوا فى حياتهم إلا يوم قرروا التخلص من عمدتهم الظالم الجائر؛ وبالفعل حدثت ثورة القرية؛ فأعدموا العمدة الظالم، وفر أبناؤه وحاشيته، وكانت أيام سعيدة ولم ينغصها إلا أنهم أفاقوا بعد سكرة النصر؛ فلم يجدوا من يقوم مقام هذا العمدة وعاشوا حالة من الفراغ الزعامى، وعادوا إلى حالة التشاكس، ثم ذهبوا إلى حكيم القرية؛ طلباً للحل، وكان معروفاً أن من يذهب إليه فحكمه نهائى لا يمكن معارضته أو عدم تنفيذه وإلا فاللعنة ستحل بالبلاد والعباد! فقال: أقسموا أمامى أن تجربوا أحد هذين الحلين، وسأترك لكم الفرصة الأخيرة وإلا فاللعنة تنتظركم: أولهما: أن تنعموا بثمار الحرية التى حصلتهم عليها؛ فتتشاوروا وتتعاونوا وتضعوا مصلحة القرية فوق مصالحكم الشخصية والحزبية والعائلية فتختاروا وبإرادتكم عمدة لكم من بينكم. ثانيهما: إذا لم تصلوا إلى الحل الإرادى خلال أيام؛ فالحل اللاإرادى سيكون فى هذه الغرفة وهذا مفتاحها معى! وبعد أيام وكالعادة اختلفت قوى القرية فركلت حريتها، وسارعوا إلى الحكيم وأقسموا أنهم سيرضون بحل الغرفة، والذى لا ولن يكلفهم مؤنة البحث والاختيار. وفى الحال فتح الباب وإذا بهم أمام العمدة الجديد وللمفاجأة وجدوا أنه ابن العمدة الذى ثاروا عليه! د. حمدى شعيب [email protected]