نشرت يومية (لوفيغارو) الفرنسية هذا الأسبوع مقالاً هاماً لرئيسة منتدى الجمهوريين الاشتراكيين في فرنسا (كريستين بوتان) تنتقد فيه قانون العلمانية الفرنسي لعام 1905 الذي يثور حوله نقاش واسع وسط الفرنسيين. وترى الكاتبة أن القانون المذكور كان خطأ، وأن قصر الدين على الحياة الخاصة للمواطنين معناه تحويلهم إلى أشخاص مصابين بازدواجية الشخصية. ولأهمية المقال نعيد ترجمته كاملاً. تزامُن ذكرى مرور مائة سنة على قانون 1905 مع مظاهر العنف الاجتماعي التي اجتاحت فرنسا بأكملها يفرض علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال حول مكانة الأديان في مجتمعنا. إن العزلة المتزايدة للأشخاص وصعوبة دخولهم في علاقة مع الآخر أمران يضعاننا أمام حقيقة أننا نعيش –حالياً- أزمة إدراك، وأزمة تعرّف على الذات ، وأزمة اختلاط الأدوار. وإذن هل يجب في هذا السياق حصر الشأن الديني في إحساس فردي، على الدائرة العمومية الاستمرار في تجاهله؟ أو أنه سيكون من الواجب الاعتراف له ببعده الاجتماعي الذي يحتاجه مجتمعنا؟ هل الشأن الديني ينتمي إلى الماضي أم هو على العكس فاعل لا يمكن تجاوزه بالنسبة للسلم الاجتماعي؟ لقد كنا شهوداً خلال قرن على فقدان الحس الديني والمعنى الديني على المستوى الدستوري، وهو حس ومعنى كان من شأنه أن يساهم في بناء شخصية الفرد، وتزويده بمعالم تدلّه، تماماً كما كانت تفعله منظمات أخرى غير دينية مثل النقابات والأحزاب السياسية. إن النزعة الدينية أو الروحية، والبحث في معاني الوجود والسمو، هي -على الرغم من كل شيء- أمور موجودة بقوة في وقتنا الحاضر. وهي لم تعد في الغالب نتيجة تربية، ولكن نتيجة بحث شخصي، مما يجعل الاعتقاد والالتزام أكثر قوة. وإذا لم يكن للدولة أن تتدخل في تنظيم هذه 'النزعة' فإن لها مع ذلك أن تهتم بالظاهرة الدينية، وأن تعطي مضموناً لمبدأ العلمانية. بعد النقاشات المتعددة للقرن العشرين حول تفسير العلمانية على الطريقة الفرنسية، ها نحن اليوم نقبل على حقبة أكثر هدوءاً للعلاقات مع الأديان وبين الأديان بعضها مع بعض. ولقد ذكر منتدى الجمهوريين الاشتراكيين بتشبثه بمبدأ العلمانية هذا الذي يقوم على دعامتين اثنتين: الحرية الدينية(التي تتضمن بالضرورة حرية الاعتقاد) وحياد الدولة. ويؤكد المنتدى على أن الحرية الدينية ليست فقط حرية العبادة التي يمنحها قانون1905 وضعاً مُرضياً، ولكنها كذلك الحرية في تربية الفرد أطفاله حسب معتقده Kوحرية التعبير عن هذا المعتقد أمام الملأ. فمبدأ العلمانية في حقيقته الأولى لا يمنع إطلاقا الفرد من الإيمان بالله، ولا ممارسة ديانة، ولا أن يظهر ذلك، ويعلنه بطريقة أو بأخرى، بل إنه لا يمنعه حتى من الدعوة إلى دينه. ويبقى كل فرد حراً في الانتماء إلى دين من اختياره، ما دام هذا الاختيار قد تم دون إكراه، ولا يمنعه من التعبير عن انتمائه هذا أمام الملأ، ما دام هذا التعبير لا يضر بحرية الآخرين ولا بالنظام العام، ولا بمشاركة المؤمن في الحياة الجماعية التي تفرضها عليه صفته كمواطن أو كمقيم على التراب الوطني. إن حصر الشأن الديني في الدائرة الخاصة المحضة معناه تحويل الإنسان إلى إنسان مصاب ب(السكيزوفرينيا أي اِزدواج الشخصية). فكيف يمكن للشخص أن يفكر في حياته الخاصة بشكل يختلف عنه، وهو يفكر في الحياة العامة؟ كيف يمكن للإنسان وبشكل سويّ أن يكون مسيحياً أو مسلماً أو يهودياً في حياته الخاصة وملحداً في حياته العامة؟ أي شكل من الشمولية هذا الذي يدّعي الحكم بهذه الطريقة في الشرع الداخلي للأشخاص؟ ليس هناك ديكتاتورية واحدة استطاعت أن تنال من وحدة الشخص بعدوان مماثل؛ لأن وحدة الفرد تعود إلى حريته الداخلية التي لا شيء ولا أحد يمكنه أن يمسها. إن حصر الشأن الديني داخل الدائرة الخاصة يعني كذلك إنكار أن الإنسان هو في نفس الوقت كائن فردي واجتماعي، وأن بعده الاجتماعي يتضمن بعداً روحياً. إن العلمانية التي تحترم الديانات تعترف طبعاً بالإنسان في تنوّعه وتكامليّته؛ وبهذا فالشأن الديني يساهم في وضع قواعد العيش الجماعي. ولمواجهة الضعف والهشاشة اللذين تسير نحوهما علاقاتنا الاجتماعية، سيكون من غير المعقول عدم الاعتراف بدور الأديان، وعدم إشراكها في إعادة بناء وحدتنا الوطنية. علينا ألاّ نُكرِه الأديان على الانكفاء على ذواتها، وعلى الدخول في منطق المطالب الفئوية والطائفية. ولنمنحها إمكانية أن تكون بمكانتها الملائمة لها فاعلاً في الإدماج. وهذا يقتضي أن نبادر إلى وضع سياسة تعاون سواء على المستوى الوطني أو على المستوى المحلي، سياسة تتضمن حواراً طبيعياً وكامل الثقة على جميع مستويات الحياة السياسية؛ فالأديان-وعلى الخصوص الأديان المسيحية التي كان لها دور حاسم، تاريخياً وثقافياً في بناء الهوية الفرنسية- هي مكوّن من مكوّنات الحياة الاجتماعية، وعليها -على هذا الأساس- أن تساهم في الحياة الجماعية الوطنية، أي الحياة السياسية المصدر الاسلام اليوم