سؤالنا الذي ختمنا به الجزء الأول من هذا المقال أمس: هل لاعبة الجودو السعودية جودي فهمي تعتبر بطلة لأنها قاطعت اللعب أمام منافستها الإسرائيلية في أولمبياد البرازيل؟، وهل بالمقابل يعد لاعب الجودو المصري إسلام الشهابي خائنا لأنه وافق على اللعب مع منافسه الإسرائيلي؟. أنا لا أرى ذلك، لأن قرار مقاطعة اللعب ليس شأنا خاصا بلاعبة السعودية، إنما هو قرار أعلى منها، يتجاوز المستوى الرياضي إلى المستوى السياسي، واللاعبة نفذت القرار الصادر لها، وحتى لا نظلمها فقد تكون تبرمت من أنها ستواجه إسرائيلية، لكن التبرم الشخصي لا يعني أنها صاحبة قرار، هى ملزمة بما تراه حكومتها، والسعودية استفادت من هذا الموقف المحسوب حيث سجلت نقطة لدى الرأي العام السعودي والعربي لتخفف من أثر زيارة علنية قام بها مؤخرا جنرال سابق ورئيس مركز أبحاث هو ماجد أنور عشقي إلى إسرائيل علنا، وجلس في مقر وزارة الخارجية مع مسؤولين إسرائيليين، وتلك هى الزيارة العلنية الأولى لشخصية سعودية على هذا المستوى إلى تل أبيب، وقد جلبت انتقادات إعلامية من شخصيات سياسية وفكرية عربية، ووجدت السعودية نفسها في حرج داخلي مُتهمة بالتوجه العلني نحو التطبيع، وفي وقت حساس لا يخدم الفلسطينيين ولا قضيتهم، ولذلك بدأ تظهر كتابات في الإعلام السعودي ضد زيارة عشقي، نقد متأخر للزيارة التي تمت بضوء أخضر، ورفضها من شخصيات وأقلام سعودية جاء متأخرا أيضا، يستحيل أن يكون عشقي ذهب من نفسه إلى تل أبيب، المؤكد أن ذلك تم بترتيب مع مسؤولين مهمين، إسرائيل استثمرت الزيارة جيدا، وروجت لها خارجيا بأن السعودية الدولة العربية الأهم حاليا تنسج خيوط التلاقي معها وتقترب منها وتزيل الحواجز بينهما، وجددت إسرائيل التأكيد بأنها في خضم أوضاع المنطقة باتت أقرب للدول العربية أكثر من قبل لأن هناك أهداف مشتركة تجمعها معهم، منها الموقف المتشابه من إيران. لم يكن عشقي وحده أول من يلتقي إسرائيليين، هناك لقاءات عديدة قام بها الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السابق، لكنها تمت خارج إسرائيل في عواصم غربية حيث يلتقي شخصيات إسرائيلية رفيعة في منتديات ومؤتمرات وندوات ويجلس معهم بكل أريحية ويوجه رسائل كثيرة عبر تلك اللقاءات للعالم بأن السعودية ليست في عداء صفري مع إسرائيل، وأن حل القضية الفلسطينية سيترتب عليه علاقات سلام بين الرياضوالعواصم العربية معها استنادا للمبادرة العربية التي كُتبت في الرياض عندما كان الملك الراحل عبدالله وليا للعهد وروج لها أولا الكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان الذي التقي الأمير عبدالله في قصره قبل القمة العربية في بيروت في 2002 وتحدثا حول المبادرة التي سيتم طرحها خلال القمة، وقد كان، لكن إسرائيل ردت عليها بقصف في لبنان، أي بالرفض عبر الصواريخ والقنابل. مقاطعة جودي كان قرارا مدروسا من السعودية، واللاعبة مجرد واجهة للتنفيذ فقط، ويدعم موقف السعودية ولاعبتها عدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين، وهذا يخفف الضغط على الرياض ولا يفرض التزامات في المناسبات الدولية، ومنها الرياضية. الحالة المصرية مختلفة، فهناك علاقات دبلوماسية وتطبيع رسمي بين القاهرة وتل أبيب عمره 37 عاما اليوم، وهناك لقاءات متبادلة وعلى أعلى المستويات بين العاصمتين، ومؤخرا قطع سامح شكري وزير الخارجية المصري صيام 9 سنوات من عدم زيارة وزراء الخارجية إلى إسرائيل وذهب إلى القدسالمحتلة، وليس تل أبيب، ليلتقي رئيس الوزراء نتنياهو، ومن تفاصيل الزيارة والصور التي نشرها مكتب نتنياهو يتكشف مدى الحميمية التي جرت فيها اللقاءات الرسمية، والخاصة في بيت نتنياهو وتخللها عشاء لشكري، وقد أرادت إسرائيل أن تقول إن دفء العلاقات لا يجب أن يظل مخفيا عبر الاتصالات الهاتفية، ولا في القنوات الأمنية، بل يجب أن يخرج للعلن، ويتحدث عن نفسه دبلوماسيا، وقد كان بالفعل. اللاعب المصري لا يملك قراره في مقاطعة اللعب مع الإسرائيلي، قيل إنه كان رافضا أو مترددا، وقد يكون ذلك صحيحا، لكن هناك قوى أعلى منه وهو اتحاد اللعبة واللجنة الأولمبية المصرية ووزارة الرياضة ثم المستوى السياسي وهم من يقررون، وقرار رفض اللعب يعني السير مصريا عكس تيار طبيعة العلاقات المتنامية الدافئة بين النظامين، يشوش عليها، ويحرج القاهرة أمام إسرائيل التي ستثتثمر القرار بشكل أو بأخر لصالحها في إحراج النظام والضغط عليه، كما استثمرت الفوز وعدم المصافحة إعلاميا وسياسيا داخليا وخارجيا في التأكيد على أنها تمد يديها للسلام والتطبيع لكن الجيران بعيدون عن ذلك، تمارس الوقاحة المتخفية وراء مصافحة مرفوضة لتدعي أنها دولة سلام، وهى دولة احتلال وقتل وإرهاب رسمي. اللاعب مغلوب على أمره، ولا مانع أن يكون قد صمم على اللعب وهزيمة الإسرائيلي، معتبرا أن فوزا كهذا سيغطي على صدمة اللعب لدى تيار شعبي مصري وعربي كبير، وسيجعل منه بطلا، لكن سارت النتائج في طريق آخر، سارت لتصل إلى منطقة الأسباب، فالجاهز والمستعد والمتدرب هو من يفوز بغض النظر عن كونه مصري أم إسرائيلي، مسلم أم يهودي، هكذا هو الكون، لا أفضلية لمن تشرق عليهم الشمس من خلق الله بسبب الدين أو الجنس أو اللغة أو اللون أو العرق، الأفضلية لمن يأخذ بالأسباب ويعتقد في الله ويتوكل عليه، إعقلها وتوكل. السعودية تلعب السياسية بنوع من الذكاء، تدرس توجه الرأي العام داخلها وخارجها، غطت على تضررها من زيارة الجنرال عشقي بمقاطعة اللعب مع الإسرائيلية، مصر تفعل ما تريد بغض النظر عن مشاعر الرأي العام، النظام لا يريد أن يغضب عليه أحد في الخارج، يريد الرضا العام، لا يريد استفزاز أحد ولا تسجيل هفوة عليه خصوصا في علاقته مع إسرائيل لأنه يدرك تكلفة ذلك لدى اللوبيات اليهودية ومراكز النفوذ الصهيوني في أمريكا وأوروبا والعالم. جودي ليست بطلة كما يصورونها، وإسلام ليس خائنا كما يتهمونه، الاثنان أداتان في لعبة السياسة في بلديهما، وقد نفذا المطلوب منهما تماما. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.