فى ندوةٍ بمركز الحضارة للدراسات السياسية – الواقع فى ميدان التحرير – كنا نتجاذب كباحثين أطراف الحديث عن ثورة 25 يناير والقضاء، وكيف أن الأخير منوط بدورٍ مهمٍ للغاية حتى تستكمل الثورة أهدافها التى من أهمها تحقيق العدالة. وفى أثناء حديثنا – حول الطاولة المستطيلة – وجه الأستاذ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح (أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة) نقده إلى الكثير من القضاة الذين يختبئون خلف الأوراق ليبرئوا وليبروا ذمتهم ناسين ومتناسين ضمائرهم ومسئولياتهم أمام الله. يقول هؤلاء القضاة أو يدعون إن "الأوراق" – التى أمامهم – لا تحتوى على أى دليل ضد الجُناة الذين قتلوا وسفكوا وقنصوا؛ ومن ثم، فالجريمة غير ثابتة عليهم.. يعنى براءة. هكذا تصير "الأوراق" سداً منيعاً يتمترس وراءه هؤلاء القضاة ليدفعوا عن أنفسهم مواجهة الحقيقة وقول الحق. يتخذون "الأوراق" ذريعةً للتهرب والهروب من دورهم الحقيقى المتمثل فى إقامة العدل، والضرب على الظلم بيدٍ من حديد. تأملت فى هذا الكلام، وقلت لنفسى إن "ثقافة الأوراق" كانت أحد ملامح ومظاهر نظام الاستبداد فى بلادنا؛ حيث يتم اختزال المواطن الإنسان فى ورقةٍ أو فى بضعة أوراق؛ فتصير الورقة هى الأصل بينما يصير الإنسان هو الصورة. وتصبح الورقة (الجماد) أهم وأعلى قيمة من الإنسان الذى نفخ الله فيه من روحه والذى رفعه فوق الجماد والحيوان. أتذكر اليوم الذى ذهبت فيه إلى قسم شرطة الدقى – منذ عدة سنوات – لكى أستخرج شهادة ميلادى من على الكمبيوتر. وقفت يومها فى طابورٍ طويل...وأخيراً حينما جاء دورى، بعد قرابة ساعتين، تنفست الصعداء...فسلمت شهادة الميلاد التقليدية إلى الموظف لكى يسلمنى الشهادة الإلكترونية. فى أقل من دقيقة كانت الشهادة الجديدة بيدى؛ إلا أن المعلومات التى احتوتها كانت خاطئة. فمكان الميلاد وتاريخ الميلاد ليسا صحيحين. وعندما استشطت غضباً أمام الموظف أجابنى بمنتهى البرود: هل ستعلمين أكثر من مستندات الدولة الإلكترونية؟ قلت له: إن هذه الورقة تخصنى أنا...أنا وليس أحداً آخر؛ وأنا – الماثلة أمامك – أقول لك إنى لم أولد فى هذا المكان، ولم أولد فى هذا اليوم..... وحتى أُصلح هذين الخطأين ذقتُ الأمرين....فأوراق ذاهبة وأوراق قادمة من أجل أن أثبت أنى لست صاحبة تلك الشهادة الإلكترونية. وحدث ولا حرج فيما حدث لى لكى أستخرج بطاقة الرقم القومى؛ وفيما حدث لأناسٍ كثيرين كانوا معى فى تلك "المعركة" غير الإنسانية التى حُفرت فى ذاكرتنا جميعاً. فكل يوم نذهب لنفاجأ بمعضلةٍ جديدة، وبأوراقٍ عديدة مطلوبة منا حتى ننال "شرف" استخراج بطاقة الرقم القومى. كنت أسألهم: لماذا ترهقوننا بكل هذه الأوراق؟ ولماذا لا تطلبونها منا فى مرةٍ واحدة؟ هل تستمتعون وتستعذبون الإتيان بنا كل يوم وكأننا لا شاغل لنا سواكم؟ هل جهدنا ووقتنا وصحتنا وعافيتنا لا تساوى عندكم شيئاً؟ كنت أرى عجائز يضطرون إلى السفر يومياً من قراهم لكى "يستوفوا" أوراقهم. ولن أنسى أبداً منظر تلك الأم العجوز – التى تجاوز عمرها 90 عاماً – التى كانت قد فقدت شهادة ميلادها الأصلية الصادرة منذ تسعة عقود. فكانوا يأتون بها يومياً – عملية تعذيب يومى– لكى يصدروا لها بطاقة الرقم القومى. أنظر فقط إلى صورتك فى بطاقة الرقم القومى ليتأكد لك صدق كلامى. ستجد نفسك فى هذه الصورة – التى تؤخذ لك بعد تلك "المعركة" – مكفهراً بائساً يائساً تعيساً. وهو أمرٌ منطقى، فقد تعرضت قبل التقاط هذه الصورة لألوانٍ شتى من القهر والضغط النفسى. فى هذه المنظومة المستبدة، تصير الأوراق كل شىء، بينما يصير الإنسان لا شىء. فلا يُرحم عجزه ومرضه وشيخوخته ووقته حتى يأتى بالأوراق. ولا تُحفظ كرامته بينما تُحفظ أوراقه. فى هذه المنظومة المستبدة، يصير الإنسان متهماً دائماً حتى يقدم الأوراق التى تثبت براءته؛ ويصير مشكوكاً فيه إلا إذا قدم أكبر عدد من الأوراق.. فكلما قدم مزيداً من الأوراق، كلما كان موثوقاً فيه...وكأنه سيوزن بهذه الأوراق. "الشعب يريد معاملة إنسانية لا معاملة ورقية"