في الحكمة العربية القديمة يقولون : عدو عاقل خير من صديق جاهل ، وهذا يسري على ما تقوم به وزارة الأوقاف ووزيرها الشيخ محمد مختار جمعة في إدارة شئون الدعوة بمساجد مصر في الأعوام الأخيرة ، والشيخ جمعة يتزلف للقيادة السياسية بصورة مبالغ فيها جدا ، ومحرجة لعمامة الأزهر نفسه ، باعتباره منسوبا إليه ، لأن وقار العلم وهيبة الدين لا يصح أن تكون مطروحة بمثل هذا التزلف المقيت ، فجزء كبير من هيبة الدين ووقار العلم يتصل بسلوك العالم والداعية ونزاهته وعفة نفسه واستقامة موقفه والحفاظ على مسافة الكرامة الكافية لرمزيته أمام السلطة أيا كانت ، فإذا سقط ذلك كله أو بعضه أو تم خدشه ، فقدت العمامة رصيدها ومن ثم فقدت دورها وقيمتها ، وأصبحت عبئا على المجتمع وعلى الدين ، وعبئا حتى على السلطة التي تتزلف لها وتزعم أنها تخدمها . الخبر الذي تداولته الصحف أمس عن قرار من وزير الأوقاف بتأميم خطبة الجمعة ، ويقول الخبر : (كشف جابر طايع، وكيل وزارة الأوقاف لشئون المساجد، عن تقديم محمد مختار جمعة وزير الأوقاف مقترحًا بشأن الخطبة الموحدة والمكتوبة على أن يكون هذا الأمر في حيز التنفيذ عقب مناقشته في اجتماعه مع وكلاء الوزارة في 27 محافظة لمناقشة هذا الأمر فضلاً على بعض القضايا الأخرى. وأشار طايع خلال مداخلة تليفونية لبرنامج "الحياة اليوم"، إلى أنه سيتم توزيع الخطبة على جميع الدعاة عبر موقع الوزارة، مؤكدًا توقيع إجراءات جزائية من قبل الوزارة تجاه المخالفين لنص الخطبة وفقًا للقرار. وأوضح طايع، أن جميع المساجد تخضع لرقابة وزارة الاوقاف وأنه لا يوجد مساجد أهلية وأخرى تابعة للدولة ، لافتًا إلى ضرورة حصول جميع الدعاة على تصريح للخطابة وأن هذا الأمر ينطبق على الجميع ممثلاً ذلك الأمر بحصور ياسر برهامى على تصريح شهري للخطابة والدعوة داخل المساجد) ، انتهى الخبر . القيمة الأساسية من رعاية الدولة للمساجد والمنابر هي أن تكون حصنا ضد التطرف والتشدد ، وأن تكون حاجزا يحول دون وقوع الشباب تحت أسر جماعات العنف والإرهاب ، وهذا الأمر يستدعي أن تكون مسئولية الوزارة الأولى والأهم هي إعداد الداعية الكفؤ علميا وتربويا ونفسيا ، وتدريبه وتأهيله بحيث توكل إليه "أمانة" الدعوة إلى الله ، ثم تترك له حرية أن يقوم بدوره المأمول طالما أنك اخترته ووضعت ثقته فيه ، ولا بأس بأن يوضع تحت المتابعة والتقييم ، أما أن تحوله إلى "ميكروفون" يكتب له أحدهم صفحة أو صفحتين ثم مطلوب منه أن يصعد المنبر لكي يقرهما حرفيا ، فهي إهانة له أولا ، وتحقير لدوره ثانيا ، وثالثا وهو الأخطر ، أنك تجعل الخطبة بلا قيمة على صعيد الواقع ، وبلا تأثير ، لأن الناس تعتبر هذه العمامة التي أمامهم مجرد ميكرفون يتم فتح عقله وضميره وغقلهما بالريموت كونترول ، ويمكن أن يستعاض عنه وعن آلاف غيره بوضع "المايك" أمام المذياع وقت الصلاة ويقوم بالدور ، وهذه إهانة للمساجد ولدورها ، وللمنابر وهيبتها ، تسقط قيمتها وتعطي تيارات التشدد والغلو الحجة في استقطاب الشباب ، لأن وزارة الأوقاف سهلت عليهم اتهام الدولة بتأميم المساجد وإهانة المنابر ، وأن الدعاة على منابر المساجد هم موظفون يقرأون نصا وزعته عليهم مكاتب الأمن أو مكاتب الوزارة سواء ، وبالتالي يصبح سلوك وزارة الأوقاف معينا لجماعات الإرهاب وداعما لها ، في الوقت التي تصور للدولة أنها تتصدى للإرهاب ، ولن يجد التطرف والإرهاب خدمة أهم من تلك التي يقدمها لهم الشيخ جمعة ، لكي يلعبوا في عقول الشباب ويؤكدون لهم أن "تحت العمة مخبر" . لقد كانت الوزارة تتورط في خطوة بائسة ولكنها أقل بؤسا من تلك ، بتحديد موضوع الخطبة ، ثم تترك للخطيب أن يصول ويجول فيها حسب حصيلته ورؤيته وقدرته وربما المحيط الاجتماعي الذي يتكلم فيه ، لأن ما يناسب قرية بدوية في أطراف مرسى مطروح لا يناسب سكان حي الزمالك مثلا ، لكنه يتجه الآن إلى الخطوة الأكثر بؤسا وهي أن يرسل للخطباء نصا مكتوبا وكل ما عليهم أن يقرأوه على المنبر أشبه ببيان رسمي من الوزارة . الذي يريد أن يتصدى للإرهاب ويحاصر التشدد يلزمه أن يعيد الهيبة لمنابر المساجد ، ولدور الأزهر ، ولرسالة الأوقاف ، ويعزز مصداقية إمام المسجد ، ويمنحه مساحة كافية للتعبير عن مجتمعه وحتى نقده ،لأن هذا وحده الذي يجعل لدوره مصداقية ولكلامه تأثيرا على المجتمع وخاصة الشباب ، أما أن يحاول وزير الأوقاف أن يستر فشله وعجزه عن إعداد الدعاة والقيام بدوره في استعادة هيبة الدعوة وقوة المنابر ليمارس دورا أمنيا ، فهذا يجعلنا ندعو إلى إلغاء وزارة الأوقاف أو قطاع المساجد فيها والاكتفاء بإلحاقها بأحد قطاعات جهاز الأمن الوطني ، ويكلف بها أحد السادة الضباط ، توفيرا للنفقات وتخفيفا على ميزانية الدولة .