خلق الله الإنسان فسواه ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وأسبغ عليه نعمه – ظاهرة وباطنة - ، وكان فضل الله عليه عظيما .. فإذا عرف الإنسان طريقه واهتدي ، زاده الله هدي ، وآتاه تقواه ، وأرشده إلي سبيل الحق واجتباه .. ومع أن نعمة الخلق ، ونعمة الهداية ، ونعمة التوفيق ، كل ذلك من الله .. " وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ " [النحل: 53] ، إلا أن الله الكريم – سبحانه وتعالي – يكافيء عبده عليها ، ويجزيه بأحسن ما عمل .. ! " لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ " [النور: 38].
تأمل مكافأة الصيام – علي سبيل المثال - .
تولي الله جزاء الصائمين – سبحانه - بنفسه ، لما للصيام من خصوصية قد لا تتوفر في العبادات الأخري .. " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به.. " [رواه االبخاري ].
فضلا علي ما أعده الله لعباده الصائمين من جزيل الأجر والمغفرة .. "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " [رواه البخاري مسلم] .. "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " [رواه البخاري مسلم]
ناهيك عن الليلة التي اختزل الله فيها ثوابا - لعباده الصائمين القائمين - خيرا من ثلاثين ألف ليلة ( ليلة القدر ).. " .. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ.." [القدر: 3] .. " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) . [رواه البخاري مسلم]
وهكذا تلحظ أن هذه المكافأة الإلهية تصحب كل الأوامر والتكاليف الشرعية ..
تأمل روعة المكافأة الإلهية التي تُوّجتِ بشكر الربّ لسعي عباده ، مع أنه - سبحانه وتعالي - هو الذي اجتبي ووفّق وهدي ، والفضل منه وإليه :
ولله درُّ ابن عباس حين قرأ قوله تعالي " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.." [ التوبة: 111]. قال : (نعمت الصفقة ، أنفس هو خالقها ، وأموال هو رازقها ، ثم يمنحنا عليها الجنة ..) !
ولقد أعطانا الله مثلا – للمنفقين في سبيل الله - بشكر الأرض الصماء ومكافأتها لمن بذر الحبّ فيها بعد ما تعهدها وحرثها وسقاها .. " مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 261] .
فإذا كان هذا عطاء الأرض الصماء ، فكيف بعطاء ربّ الأرض والسماء.. ! .. ولذا ختمت الآية بقوله تعالى : " وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ".
فما أجدر العبد أن يتخلق بأخلاق الله ، فيشكر النعمة ولا يجحدها ، ويعرف الفضل لأهله ولا ينكره ، فشكر الناس موصول بشكر الله ..
" لا يشكر الله من لا يشكر الناس " [ صحيح الجامع ] .. " إذا قال الرجل لأخيه : جزاك الله خيرا ، فقد أبلغ في الثناء " [ صحيح الجامع ] .. " من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتي تروا أنكم قد كافأتموه " [رواه أبو داود ، وصححه الألباني].
جميل أن يشيع هذا الخُلق الإلهي ( المكافأة ) بين الناس ، فالزوجة مع زوجها ، تعرف فضله ، وتثني علي عمله وتثمّنه ، وهو يبادلها نفس الخُلق ، شكرا بشكر ، والرجل مع أولاده يكافئهم علي أعمالهم ، ولا يتنكر لمجهودهم ، والأبناء يبادلونه بالشكر برا وإحسانا ..
المهم أن يسري هذا الخلق – المكافأة – في جميع مؤسساتنا وبرامجنا وأجهزة التأثير والتوجيه.. فمعرفة الفضل لأهله خُلق إلهي ؛ وجحود النعمة وكفرانها ، وعدم معرفة الفضل لأهله ، وبخس الناس أشياءها ، خُلق إبليسي ذميم ، يهدم ولا يبني ويدمّر ولا يعمّر ، إنه يقتل كل جميل ، ويئد كل خير .
آه ، لو سرى هذا الخلق الإلهي – المكافأة – بيننا وأصبح خلقا لنا وشعارا ، لانعكس ذلك علي المجتمع كله – أفرادا وجماعات – حبا وأمانا ، ورفعة وسلاما ..! وصدق الله العلي العظيم " هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ " [الرحمن: 60] .
--------------- (*) باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي