ليس دفاعا عن وزير التعليم، ولا تقليلا من معاناة طلبة الثانوية العامة وأولياء أمورهم، إنما حنقا على نظام تعليمى فاشل ومتخبط أفرز تلك المهزلة التى أطلقت عليها وسائل الإعلام «مجزرة الثانوية العامة». انجرف الإعلام، بكل أسف، وراء موجة الانتقادات الموسمية التى تصاحب «مولد الثانوية العامة»، تلك السنة، التى جرت العادة على اعتبارها «مفصلية» و«مصيرية» و«عنق زجاجة». تقام من أجلها معسكرات «الحفظ الصم»، وتفك لها شهادات الاستثمار، وتدخر لدروسها الخصوصية الجمعيات. وبعد إعلان نتائجها الشهيرة، إما يوزع لها الشربات وتذبح الغنائم، أو ينتحر على شرفها الراسبون. طبيعى إذن بعد حالة الاستنفار هذه التى تربى عليها الطلبة منذ عقود طويلة أن نشاهد على صفحات الجرائد تلك الوجوه الباكية لطلبة وأولياء أمور مكلومين، كلاهما ينتحب من صعوبة الأسئلة، و«خروجها عن المنهج»، بل الإتيان ببعضها من كتب المرحلة الإعدادية.. وهنا تلزم وقفة. فعبارة «خارج المنهج» لا أجد لها أساسا أى سياق منطقى سوى أنها تأتى فى إطار سياسة تعليمية هدفها الوحيد إضاعة وقت الطلبة فى «صم» فقرات وأرقام بعينها، يسكبها هؤلاء المساكين فى الامتحان سكبا، ليخرجوا من اللجان بأدمغة فارغة، استعدادا لحشوها فى العام التالى بمجموعة أخرى من الكلمات المكدسة. يتصور الكثيرون أن المنهج الدراسى يقتصر على كتاب الوزارة، وأنه بالتالى يمتد من «الجلدة للجلدة»، ولكن ألا يفترض أن تشمل كلمة «منهج» ما هو أوسع وأعمق ؟ ألا يفترض أن يكون المنهج الدراسى هو إجمالى ما يحصله الطالب- فهما واستيعابا - طوال سنواته الدراسية التى يفترض أن يبنى فيها هرما معلوماتيا عاما بعد عام؟! أليس من المفترض أن تشكل تلك الخبرة التراكمية منهجا للطلاب طوال سنوات التعليم الأساسى قبل دخولهم مرحلة التخصص الثانوى، ثم التعليم العالى الجامعى. كيف إذن يخرج مسؤولون وبرلمانيون بتصريحات هزلية يستنكرون فيها وضع سؤال «من منهج إعدادى» ؟! صحيح أن هناك إجماعا على فشل النظام التعليمى فى مصر فى الحفاظ على نسبة الذكاء الفطرية للطفل، بل إنه يهبط بها إلى أدنى المستويات، ولا نتحدث هنا عن الارتقاء بمستوى الطالب ومواكبة التطورات العالمية. ولكن هل ينجو الأهل من المسؤولية؟ المؤسف أن دور البيت فى كثير من الحالات لا يقل تدميرا عن دور المؤسسة التعليمية. فإذا كانوا مجبرين على قبول كتب محشوة، وأحيانا مدارس غير مؤهلة، وأحيانا أخرى مدرسين غير أكفاء، فأين ذهب دورهم التربوى فى غرس مفهوم القراءة البحثية لدى أبنائهم، عبر الكتب المطبوعة وعبر الإنترنت. أين ذهب دورهم التربوى فى تنشئة أفراد يمتلكون من الوعى ما يجنبهم الانجراف وراء ما ننفرد بتسميتها «كليات القمة». يتعامل كثير من الأسر مع الثانوية العامة باعتبارها بوابة ينبغى اجتيازها بمجموع «كبير» يؤهل للانضمام إلى إحدى كليات القمة، فإذا دارت نسبة القبول فى كلية الطب حول 97% لم يعد لمن يحصلون على 95% قيمة فى سوق التنسيق. تسعى بعض العائلات إلى أن يحصل أبناؤهم على لقب «دكتور» أو «مهندس»، بغض النظر عما إذا كان الأبناء أنفسهم مؤهلين أو قادرين أو حتى راغبين فى ذلك. لكن الأدهى أن يقتصر مفهوم هذه العائلات للدراسة والتعليم على الاستذكار فى أشهر الشتاء، وأن يرتبط لديهم الاستذكار بالكتب الدراسية، وملازم المدرسين الخصوصيين، وملخصات ما قبل الامتحان، التى يحدد فيها المدرس النابغة أسطرا بعينها يركز عليها الطلبة خلال الساعات الأخيرة، فإذا حادت الأسئلة عنها كان الامتحان «خارج المنهج». فى الجامعة الأمريكية، التقيت صدفة بأم أعجبت فى البداية بحرصها على إشراك أبنائها فى الأنشطة الصيفية، إلى أن تبدل إعجابى هذا بذهول عندما سمعتها تسأل المدرسة «ليه مش بتديهم (هوم وورك)؟ أنا جايباهم هنا عشان يضيعوا وقت ويلاقوا حاجة يعملوها فى البيت لما يروحوا!». صدمت وابتلعت لسانى. غادرت المكان وأنا أفكر فى تلك الأم التى تنفق الآلاف على أبنائها كى «يضيعوا وقت»، لتلخص بعبقرية سطحية الكثيرين فى رؤيتهم المأساوية لمفهوم التربية والتعليم. [email protected]