«كش نيل!» أكاد أسمعها وأنا أتابع -كغيرى- الأخبار والتطورات المتسارعة المتعلقة بما يصل إلينا من مياه النيل. لم نُفِقْ إلا بعد وقوع «الفاس فى الراس»؛ دول المنبع قررت تقليل حصة دول المصب. فبعد أن عانى خبراء البيئة والموارد المائية من صعوبة إقناعنا بأننا دخلنا بالفعل إلى منطقة الفقر المائى، أصبح علينا أن نواجه خطر الهلاك المتمثل فى معادلة ملعونة تؤكد تراجع ما يصلنا من مياه فى مقابل تزايد أعدادنا. أتذكر أن ظهور إسرائيل فى دول المنبع منذ سنوات طويلة لفت أنظارنا، تَنَبَّهْنَا قليلاً كمن يسمع صوتًا عاليًا أثناء نومه، فينتفض أو تنقبض عضلات وجهه أو يأخذ وضعًا جديدًا يعود به للنوم، نستغرق فى النوم هربًا من المسؤولية أو جبنًا أو جهلاً بخطورة النوم فى وقت العمل. نِمْنَا على رقعة الشطرنج حتى أَفَقْنَا على مشكلة كبرى، مشكلة قد تؤدى بنا إلى تَلَقِّى هذا التحذير المرعب: «كش نيل!» فالمباراة التى نلعبها لا تختلف أبدًا عن لعبة الشطرنج إلا فى عناصر اللعب.. نلعب بمواردنا وتراثنا وهويتنا، حتى النيل وضعناه بحماقتنا وإهمالنا فى موقع الملك، ظنًّا مِنَّا أننا نُكَرِّمُهُ! ولم لا.. ونحن من الأمم التى ترهن مصيرها بمصير حكامها؟ على عكس أمم أخرى يموت حكامها ويتقاعدون دون أن تشعر إلا بالتعاطف الإنسانىّ الذى نزعم دائمًا أننا ننفرد به. كل الشعوب تحب الحكام الذين تختارهم بإرادة حرة، وتحزن على فراقهم. أما ركائزها الفكرية والمادية فهى فوق أى تهاون أو تفريط. «مصر هبة النيل»، كما قال هيرودوت، وثبت صحة قوله علميًّا. أَنْعَمَ الله علينا بالنيل لتنشأ على ضفتيه أعظم حضارات الأرض، قَدَّسَ قدماؤنا النيل، واستخدمناه نحن كَمِرْحَاضٍ مفتوح وَبَلاَّعَةٍ كبرى، مع استثناءات قليلة تتمثل فى انفعالات المبدعين المتمثلة فى صياغات أدبية وغنائية ولوحات فنية. فجأة، ودون أن ندرى، وجدناه فوق أحد مربعات لوحة الشطرنج؛ لم نُبَالِ كثيرًا، فهو موجود (هيروح فين يعنى؟!) بَلاهَةٌ لا بُدَّ لنا أن نسجلها من باب نقد الذات والاعتراف بالخطأ، أملاً فى تصحيحه. عزيزى القارئ، عزيزتى القارئة، إن كنتَ أو كنتِ ممن يلعبون الشطرنج، فلا شك أن الجزء التالى من المقال سيكون مثيرًا ومحفزًا فى ذات الوقت، وإن كنتَ أو كنتِ ممن لم يتعلموا الشطرنج أبدًا، فإنى أدعو الجميع لسرعة تعلم هذه الرياضة الذهنية شديدة الأهمية. الشطرنج يعلم مُمَارِسِيهِ التخطيطَ واليقظةَ للمنافس، والقدرةَ على رؤية واستقراء أفكار وخطط المنافس والاستعداد المبكر لمواجهتها، والقدرة على المراوغة وتشتيت انتباه الخصم، وتحقيق المكاسب وفقًا للمتاح من إمكانيات، وتقليل الخسائر بقدر المستطاع، وإدراك أن الطريق المستقيم ليس بالضرورة هو الطريق الصحيح فى كل الأحوال، وإدراك أن هناك دائمًا أكثر من حل أو وسيلة لتحقيق الهدف، وعدم الاستهانة بالآخرين، ياه.. (ولسّه!) التعرف على إمكانيات عناصرك: (فيل وحصان وطابية ووزير وعسكرى وملك)، إمكانياتها الأساسية وإمكانياتها بين أَصَابِعَ يَقُودُهَا مُخٌّ يوظفها وفقًا لقدراته وخبراته؛ يعلمك الشطرنج أهمية الالتزام بالقانون مع الاستفادة من أدق تفاصيله وبنوده الفرعية. (كمان؟) الشطرنج يسمح لك بتحقيق المعادلات الصعبة المتمثلة فى عبارة «كش ملك!»؛ تهدد ملك منافسك، فيضطر للتضحية بأحد عناصره الأخرى، يخسر عسكريًّا أو حصانًا أو فيلاً، وربما وصل الأمر للتضحية بالوزير. «كش نيل!» ترن فى أذنى، فأشعر أن من واجبى أن أكررها على مسامعكم جميعًا كى ننتبه كلنا إلى الخطر قبل أن يقع.. تزعجنى جدًّا فكرة أن نصبح يومًا فى موقف اختيار صعب يفرض علينا المفاضلة بين أمرين أحلاهما مُرّ: الحصول على نصيبنا العادل من مياه النيل بشرط تقديم نسبة ضئيلة منها لإسرائيل، أو قبول تناقص شديد فى حصتنا تفرضه دول المنبع فى حماية إسرائيل. كابوس لا حاجة بنا لتفسيره، بقدر حاجتنا لتشغيل كل مراكز الحكمة فى عقولنا لنحسب بدقة خطواتنا التالية فى لعبة الشطرنج التى لا بُدَّ لنا جميعًا أن نلعبها. أرجو أن نتعلم كلنا الشطرنج وأن نعلمه لشبابنا بدلاً من البوكر الذى يتنامى على الإنترنت منذرًا بخطر آخر أنوى الالتفات إليه فى مرة قادمة إن شاء الله. [email protected]