رأينا فى الكلمات السابقة كيف كرم الإسلام العمل، واعتبره مصداقاً للإيمان، ومعيارًا للثواب والعقاب يوم الآخرة، وأضفى على العمل اليدوى تكريماً خاصاً، وكان يجب أن يكون هذا المعنى ماثلاً فى نفوس الفقهاء وهم ورثة الأنبياء، ولكن الحقيقة المفجعة هى أن إضافة هؤلاء الفقهاء تمثلت فى إيضاح «الحرف الدنيئة»، فعبروا بذلك عن روح عصرهم ونزعة مجتمعهم حتى عندما يكون هذا وذاك هو النقيض لما جاء به الإسلام. وقد نقل لنا وجهة نظر الفقهاء كاتب معاصر هو الدكتور محمد رواس قلعجى فى بحث موجز بعنوان «الاحتراف وآثاره فى الفقه الإسلامى»، فقال تحت عنوان «حصر الحرف الدنيئة»: «لقد حرص الفقهاء على تحديد الحرف الدنيئة، ليبقى ما وراءها من الحرف شريفاً، فأول ما بدأوا به بيان تصورهم للحرفة الدنيئة فقالوا: الحرفة الدنيئة هى كل حرفة دلت ملابساتها على انحطاط المروءة وسقوط النفس، ثم راحوا يعتمدون على العرف فى تعداد الحرف الدنيئة التى حكمت عليها أعراف عصرهم أنها حرف دنيئة. فذكر المالكية الحجام والزبال والحائك والفران والحمامى والشاعر الذى يمدح الناس فى الأسواق والولائم ممن يتعاطون حرفا دنيئة. وذكر الحنابلة الحائك والحجام والفصام – وهو الذى يجرح الجلد ليسيل منه الدم – والحارس والكساح – وهو الذى ينظف الأفنية والكنف – والدباغ والحمامى والزبال والصباغ والصائغ والحداد ومؤجر الفحل للعسب – أى اللقاح – والماشطة – التى تتولى تزيين النساء – والنائحة والبلان – وهو قيِّم الحمام – والمزين والجرائحى – وهو الطبيب الجراح – والبيطار ممن يتعاطون حرفا دنيئة. وذكر الشافعية الكناس والحجام والحارس والراعى وقيِّم الحمام (البلان) والفصاد والحاقن – الذى يداوى الناس بالحقنة الشرجية – والقمام والقصار والزبال والكحال والدباغ والإسكاف والجزار والقصاب والسلاخ والجمال – الذى يسوق الجمال بالمراكب – والدلال – الذى ينادى على السلع – والحمال والحائك والفوال والحداد والصواغ – هو الصائغ – والبيطار من الذين يتعاطون حرفا دنيئة. وذكر الحنفية الحائك والحجام والكناس والدباغ والحلاق والبيطار والحداد والصفار- الذى ينظف الأوانى النحاسية ويطليها بالقصدير – والحارس والسائس والراعى وقيِّم الحمام والبواب والسواق – الذى يسوق الدابة بالراكب – والفراش – الذى يتولى تنظيف مفروشات المنزل ونحوه – والوقاد والمرضع التى احترفت الإرضاع بأجر، ممن يتعاطون حرفاً دنيئة. والمدقق فى هذه الحرف يرى أنها اعتبرت حرفا دنيئة للعلل التى سنذكرها إن شاء الله: فالحجامة: وهى مص الدم والقيح بالفم، كانت حرفة دنيئة لمخالطة متعاطيها النجاسة. والزبال: وهو الذى يجمع أوساخ الناس وقمامات بيوتهم، كانت حرفة دنيئة لما فيها من مخالطة النجاسات والقاذورات، فضلا عن أنها من الأعمال البهيمية التى يؤديها متعاطيها من غير فكر. والحياكة: كانت قديمًا من الحرف الدنيئة لما يداخلها من الغش، فالحائك – فى القديم – كان يرش الدقيق المذاب بالماء على القماش ليستر به عيوب الحياكة، وليبدو النسيج جيدًا، والثوب صفيقاً. والبلان: وهو قيِّم الحمام، فإن حرفته اعتبرت دنيئة لما يقع فيه متعاطيها من اطلاع على عورات الناس فى الحمام. واتفقت المذاهب الثلاثة: الحنفى والشافعى والحنبلى على اعتبار حرف الحراسة والحدادة والبيطرة والدباغة حرفا دنيئة. وإن المدقق فى هذه الحرف يرى أن الحراسة – والمراد بها الحراسة الخاصة أعنى حراسة شخص، لا الحراسة العامة التى هى جزء من مهام الدولة فى الحفاظ على الأمن – اعتبرت حرفة دنيئة لما فيها من الخدمة المباشرة للأبدان من غير ضرورة، والتبعية الكاملة لشخص، وتقلص الشخصية، بل ذوبانها، وزوال عنصر الفكر، حتى لتصبح من الأعمال البهيمية. وأن الحدادة فى ذلك العصر فيها من الاستقذار وتشويه الصورة – أى الوجه – بالسواد ونتن الرائحة ما تترفع عنه النفوس العالية. وأن البيطرة – فى ذلك العصر – فيها الرضا بمخالطة الحيوانات وأبوالها وأرواثها. وأن الدباغة فى ذلك العصر فيها مخالطة أهب الحيوانات الميتة النجسة. واتفق الحنابلة والشافعية على اعتبار الصياغة والفصادة والصباغة حرفا دنيئة. وقد اعتبر هؤلاء الصياغة من الحرف الدنيئة، لأن الصياغ يصنعون حلى الذهب للرجال مما يساعدهم على ارتكاب الحرام. أما الفصادة: وهى التداوى بشق الجلد وإسالة الدم من البدن – فلما فيها من أضعاف البدن، ومباشرة النجاسة – وهى الدم. وأما الصباغة فلما يستعمله الصباغون – فى ذلك العصر – فى صناعتهم من الأبوال. واتفق الحنفية والشافعية على اعتبار الرعى حرفة دنيئة. ولعل السبب فى ذلك أن متعاطيها يعمل عملاً بهيميًا خاليًا من الفكر – هذا إذا خلت من التفكير الهادئ فى مصالح الناس، وفى آلاء الله – ولأنه رضى أن يكون فى خدمة البهيمة العجماء، وهى أدنى حالا من الإنسان الذى اعتبروا خدمة بدنه خدمة محضة من غير ضرورة حرفة دنيئة. ونص الحنفية على اعتبار السائس، والفراش، والبواب، والوقاد، والمرضع ممن يتعاطون حرفاً دنيئة. ووجهة نظرهم فى ذلك: أن السائس كالبيطار، رضى أن يكون فى خدمة جسد الحيوان، وهو يخالط أبوال الحيوان وأرواثه، وهى نجسة. وأن الوقاد – وهو الذى يمد النار بالقمامة ليدوم اشتعالها – يخالط الأقذار والنجاسات. ونص الشافعية على اعتبار الإسكاف والحمال والجلاد والملاح والدلال والقصار، والحاقن، والكحال – طبيب العيون – ممن يتعاطون حرفاً دنيئة. ووجهة نظرهم فى ذلك: أن الحمال والملاح: وهو الذى يجدف بالمجاديف ليجرى السفينة براكبيها – يتعاطيان حرف خدمة محضة، وكذلك الجلاد، إضافة إلى أن حرفة الجلاد تنزع ما بقى فى قلبه من الرحمة، بل تجعله إنساناً منجرفاً يسعد بتعذيب الآخرين. وأن الإسكاف رضى بخدمة أحذية الناس، مع أن خدمة أشخاصهم خدمة محضة تعتبر من الحرف الدنيئة، فما بالك إذا كانت الخدمة تباشر أحذيتهم. وأن الحاقن وهو الذى يطبب الناس بالحقنة الشرجية – لمعاجلة احتباس الغائط – فلأنه كثير الاطلاع على عورات الناس. وأما القصار والكحال فلم أدرك سببًا لاعتبار حرفتهما حرفة دنيئة، ولعله عرف قد ساد فى فترة زمنية معينة أو لأن كل قصار صباغ بالعادة، وقد تقدم الكلام فى الصباغ».. انتهى. بهذا كاد الفقهاء أن يدخلوا معظم الحرف اليدوية فى إطار «الحرف الدنيئة» وفاتهم أن النبى «صلى الله عليه وسلم» فضل العمل اليدوى، وأنه قبَّل اليد التى مجلتها المسحاة قائلا «هذه يد يحبها الله ورسوله» وأنه هو نفسه كان يخصف نعله، ويقم بيته، ويجمع الحطب، وأن مهنته، ومهنة موسى كانت الرعى، وأنه آسف لما علم بوفاة عجوز كانت تقم المسجد لأن هذا حال دون أن يصلى عليها، وأن مهنة داود كانت الحدادة، ومهنة إدريس كانت الخياطة، ومهنة نوح كانت النجارة، وأن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، من على بن أبى طالب حتى أحمد بن حنبل عملوا أعمالاً يدوية، بل اشتغلوا فى حمل الأثقال! وأن أعلى أسماء فى الأرستقراطية القرشية الإسلامية: زينب بنت جحش وأسماء بنت عميس كانتا تقومان بالدبغ وبكثير مما أدخلوه فى الحرف الدنيئة! ولكن هذا القطع من الفقهاء لا يُعد غريبًا بعد أن ذهب بعضهم إلى أن «غزل الرجل إن كان على مثال غزل المرأة يكره! لأنه تشبه بهن»! ■ ■ ■ المقاطعة ما فعلته إسرائيل إزاء قافلة الحرية هو بصقة كبيرة فى وجه المجتمع الدولى، كما كان غزو إسرائيل لغزة بالأسلحة المحرمة وتدميرها بصقة أكبر، كما كان سحق الجرافة الإسرائيلية راشيل كورى عندما تصدت لها حتى لا تدمر بيتاً عربيًا بصقة أخرى. ماذا نفعل إزاء ذلك؟! الحكومات لا فائدة منها، لأن المصالح تربطها بأمريكا الحامية الأبدية لإسرائيل. الحل الوحيد أمام الشعوب هو المقاطعة بكل صورها، مقاطعة للجامعات الإسرائيلية، مقاطعة للصناعات الإسرائيلية، مقاطعة السفن الإسرائيلية فى الموانئ العربية، مقاطعة الطائرات الإسرائيلية فى المطارات، إن المقاطعة ليست عملاً فرديًا، إن الجامعات البريطانية تقاطع حتى الآن الجامعات الإسرائيلية، وقد قرر عمال الشحن بموانئ السويد مقاطعة البواخر الإسرائيلية من 15 يونيو، ومنذ وقت طويل قاطع اتحاد العمال العرب السفن الأمريكية عندما حاصرت الباخرة العربية كليوباترا.. إن اتحاد عمال مصر واتحاد العمال العرب يمكن أن يقاطعا السفن والطائرات الإسرائيلية فيشلاها [email protected] [email protected]