فليسامحنى القارئ الكريم لأننى سأعود للمرة الرابعة، أو ربما الخامسة، للحديث عن الحركة الدولية لمقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها ونزع الشرعية عن الاحتلال. فأنا لن أمل الحديث عنها لأننى، فى الحقيقة، صرت مؤمنة بأن الأمل لم يعد فى «مفاوضات التسوية» وإنما فى تلك الحركة. وفى قصة أسطول الحرية المثال الحى من وجهة نظرى! فالصمت المدوى الذى ظل يصاحب جريمة حصار غزة لم تكسره سوى تلك الحركة. والهدف النبيل لأسطول الحرية تحقق دون أن يصل بمساعداته لغزة، حتى إن العالم اليوم لا يدين جريمة إسرائيل ضد أسطول الحرية فقط، وإنما يرفض جريمة حصار غزة نفسها. وتسليط الأضواء على ما يحدث فى غزة هو إحدى أدوات الحركة الدولية التى أتحدث عنها التى تهدف لمقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عن الاحتلال حتى ينتهى. وهى الحركة التى، رغم النجاحات التى حققتها خلال العامين الأخيرين، تظل حركة وليدة تحتاج للمثابرة والاستمرار عبر فترة زمنية طويلة حتى تحقق أهدافها. لكن لعل الأهم من هذا كله هو أن هذه الحركة الدولية، فى آخر حملاتها، أى أسطول الحرية، قد كشفت عن مجموعة من التحولات الكبرى التى ينبغى الانتباه إليها. أول هذه التحولات هو ازدياد عزلة إسرائيل دوليا وارتفاع سقف الإدانات التى تتعرض لها فى كل مكان. وتلك العزلة - التى اعتبرتها مراكز الأبحاث الإسرائيلية أهم التهديدات «الوجودية» - تنفق إسرائيل مبالغ طائلة لمواجهتها. أما ثانى تلك التحولات، والمرتبط بشكل وثيق بأولها، فهو أن الولاياتالمتحدة لم تعد الفاعل الرئيسى فى الشرق الأوسط! فمن ينظر إلى التفاعلات الإقليمية مؤخراً، بدءاً بموقف أمريكا من مبادرة تركيا - البرازيل الخاصة بالبرنامج النووى الإيرانى مروراً بتراجعها المستمر بشأن الاستيطان والمفاوضات ووصولاً إلى الموقف الأمريكى البائس إزاء جريمة أسطول الحرية، يجد أن الأداء الأمريكى فى مجمله صار أداء فاعلاً ضمن غيره من الفاعلين يتحرك فى أغلب الأحيان من موقع رد الفعل لا من موقع المبادرة! لكن لعل التحول الجوهرى الأهم هو أن معركة الرأى العام العالمى صارت هى معركتنا الرئيسية. وهى معركة صار جزء كبير من أوراقها فى أيدينا نحن. و«نحن» تلك المقصود بها المدنيون فى كل مكان فى العالم، فمن الواضح أنه كلما جاء الدفاع عن فلسطين فى صورة عمل مدنى دولى سلمى يرتكز لمنطق أخلاقى وينطلق من احترام القانون الدولى، ازدادت الحماقة الإسرائيلية ميلاً لاستخدام القوة الغاشمة فيزداد معها الغضب الدولى إزاءها. لكل ذلك، آن الأوان لأن تفيق النظم العربية وتنتبه إلى التحول العميق الذى يحدث فى العالم، فهو عالم لم يعد أحادى القوة رغم مكابرة أمريكا، والمستقبل صار للقوى الحية التى ترفض العدوان وتسمى الجرائم التى ترتكب ضد الإنسانية باسمها الحقيقى. وتلك القوى طالت أمريكا نفسها وأثرت فى مؤسسات لم يعرف عنها، تقليدياً، أنها مناصرة للعرب. وهى فعلاً ليست مناصرة للعرب ولكنها ضد الجرائم التى صار من الصعب السكوت عليها. على النظم العربية أن تختار بين الجرى وراء أمريكا التى عزلت نفسها بانحيازها لجرائم إسرائيل وبين اتخاذ مواقف مستقلة تنحاز للضمير العالمى وتمثل فى ذاتها الضغط الأهم على أمريكا.