جعلت »المصرى اليوم« قارئها هو رهانها الأول، وربما رهانها الوحيد، باعتباره المستهلك لمنتجها الصحفى.. فماذا كانت النتيجة؟! فى كل مساء، حين يوشك الليل على الانتصاف وأهمّ بالانصراف، أفاجأ بأحد المواطنين يقف فى إصرار بالغ على ألا يخرج من مقر الجريدة إلا بتوصية من كبار المسؤولين، وحين أشير عليه بالعودة فى الصباح حيث مواعيد العمل الرسمية للمحررين، يرد بمتوالية من الصراخ والاستغاثات: «أرجوك يا أستاذ، أنا ما أقدرش أرجع البيت دلوقتى، أنا سايب أخويا وولادى فى البيت لوحدهم، مااعرفش جرى لهم إيه.. لو ظهرت فى الشارع مش بعيد أتقتل قبل ما أدخل البيت». وتتكشف أمامى تفاصيل القصة، فالرجل قام بالإبلاغ عن عصابة لتهريب الآثار بدافع الوطنية- ولعله ندم- وحين خشى بطشهم لجأ إلى «المصرى اليوم» لحمايته. أمثال هؤلاء البسطاء لا يعرفون أن حدود مسؤوليتنا تقف بنا عند شرف الكلمة ومسؤولية الدفاع عن الحق. يتكرر هذا المشهد كثيراً، وفى كل ليلة وأنا أخطو بقدمى من باب »المصرى اليوم« إلى خلاء الشارع الواسع، ونسيم أماسى الشتاء يصفع وجهى، أتساءل: ما الذى يجعل هؤلاء البسطاء يرفعون شعار: من أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل «المصرى اليوم» فهو آمن؟ لم تكن المهمة المنوط بمجدى الجلاد القيام بها منذ اللحظة الأولى هى زيادة نسبة التوزيع من 3 آلاف إلى ربع مليون نسخة، رغم صعوبتها طبعاً، كما لم تكن هى ملاحقة الفساد- نيابة عن القارئ- ولا مطاردة اللصوص والمجرمين، رغم أهميتها أيضاً. كانت المهمة- كما رآها رئيس التحرير ببصيرة نافذة- هى تأسيس خطاب إعلامى قادر على استيعاب العلاقة الجدلية بين الشارع والسلطة، خطاب يستنطق الحقائق، ويستبطن كوامن القارئ، ويمسك بجمرة الغضب داخله ويكشف الزيف. فى مثل هذه الظروف تصبح الحيلة المهنية، التى تعول عليها أى صحيفة تريد أن تحقق قاعدة جماهيرية عريضة، وأن تحتكر قارئها لنفسها- هى أن تحاول أولاً قراءة سيكولوجية الشارع. ولم تكن المهمة مستحيلة.. لكنها كانت تتطلب قدراً كبيراً من الصدق مع الذات.. ومع الآخرين، وقدراً من الإيمان بأن المصلحة العامة هى المصلحة الشخصية. ونجحت «المصرى اليوم» فى قراءة سيكولوجية الشارع.. فماذا كانت النتيجة؟ أزهرت التجربة، وأثمرت فى كل مكان: فى الفضائيات.. وفى الشارع.. وفى قاعات البحث والدرس. فى الفضائيات أصبحت الصحافة هى «المصرى اليوم»، وفى الشارع رفع باعة الصحف لافتات «احجز نسخة الغد من اليوم»، وفى قاعات البحث والدرس أصبحت النموذج والمثال باعتبارها الأكثر صدقاً والأوسع انتشاراً. وإذا كان هذا هو الإنجاز الذى حققته «المصرى اليوم» على مستوى البنية التحريرية، فإن ثمة إنجازاً آخر غير مسبوق على مستوى الشكل، فحين تنظر إلى «المصرى اليوم» وترى الجمال يتفجَّر فى أنحاء الصفحة، وتجد الصور فى عناق دائم لكتلة الكتابة، حين تفجؤك حركية الصفحة سوف يباغتك ذلك السؤال الذى لابد باغت الكثيرين قبلك: متى كان الإخراج الصحفى مرادفاً للإخراج السينمائى؟!.. سؤال لن يجدى معه أن نحيلك إلى د. أحمد محمود للتخصص، فالفنان لا يعرف كيف يبدع، والسؤال الذى حيّر الفلاسفة حيّر الفنانين أنفسهم. عرفت بالدكتور أحمد محمود فى عام 1997م، كنت فى قريتى الصغيرة عند أطراف الدلتا، حين صدر العدد الأول من صحيفة الدستور- فى تجربتها الأولى- وبهرنى، كما بهر غيرى، ذلك الأسلوب الحداثى فى إخراجها، وحين انطلق السؤال بداخلى: من؟!.. كان قد انطلق، بإلحاح أيضاً، داخل جموع القراء، وجاء الرد سريعاً ليرضى فضول الجميع: إنه أحمد محمود.. شاب عائد بالدكتوراه من كندا. وحتى الآن، حين نجتمع- نحن المحررين المراجعين- عرضاً، من صحف شتى، ويتطرق بنا الحديث عن الصحف الجديدة، وعن مدارس الإخراج الفنى يبدأ الكلام وينتهى بأحمد محمود. قبل أحمد محمود كانت مرحلة فى تاريخ الصحافة، لم يكن المخرج فيها يكلف نفسه عناء قراءة الموضوع، وجاء أحمد محمود فجبَّ ما قبله.. على يديه أصبح الأساس الفنى، والقاعدة الأولى تحتم على المخرج الصحفى مهمة خلق شكل فنى قادر على احتواء مضمونه، بحيث يصبح المبنى مطابقاً للمعنى. الصدفة وحدها قادت خطاى إلى مطالعة رسالة دكتوراه لأحد تلاميذه، كان محورها البحثى، الذى لفت نظرى، بحكم اهتمامى بالنقد الأدبى، يدور حول آليات توظيف الصورة لخدمة النص، بحيث تعطى القيمة الجمالية عمقاً للنص المكتوب أو تتحول هى نفسها إلى قيمة معرفية محضة وفقاً للمبدأ النقدى الذى يرى أن كل ما هو جمالى حقاً هو معرفى أيضاً. نقل أحمد محمود الثنائية الجدلية بين الشكل والمضمون من حقل الإبداع الروائى والسينمائى، بل من الحقل التشكيلى أيضاً، إلى الحقل الصحفى، فاستحق أن يصبح علامة فارقة فى تاريخ الصحافة، ومرحلة بين مرحلتين. ثم هو بعد هذا كله أحد رهانات «المصرى اليوم» ورئيس تحريرها، وهو أمر لا يخفيه مجدى الجلاد، ولا ينفيه، بل لعله يحرص على التأكيد عليه والتباهى به فى كل مكان، وفى كل يوم. وفى كل يوم، حين نرى مجدى الجلاد يتحرك بين كتيبة من المقاتلين ومعه د. أحمد محمود، نعرف أنها ساعة الذروة.. رئيس التحرير يفكك عنواناً مضغوطاً فى الصفحة الأولى، أو يستبدل موضوعاً مهماً من الصفحة الثالثة بآخر أكثر أهمية، لا تزال أحداثه تقع هاتفه به أحد المحررين، بينما د. أحمد محمود يصدر الأوامر بتخفيف كآبة الأسود بتقليل العناوين، أو يبعث الفرح فى الصفحة بتأطير أحد الموضوعات بالأحمر، وربما يحتاج إلى اختصار فقرة بأكملها حرصاً على توفير مساحة بياض كبيرة أسفل الصورة لإراحة عين القارئ. يظل د. أحمد محمود يقوم بالتنعيم هنا، أو بالتخشين هناك، وحين يطلب أن يرى الصفحة كاملة ليقيس بنظرة تقديرية نسبة الصور إلى حجم الصفحة أو تناغم الألوان، قبل أن يعطى أمراً بالطبع، نعرف أنه إنما يقوم بتنفيذ تعاليم أرسطو، فالجمال نسبى ولا يمكن إدراكه إلا بتآلف أجزاء الكل الواحد وتناغمها مع بعضها البعض. ما يدعو مجدى الجلاد ود. أحمد محمود إلى الحضور فى أيام الإجازات، وفى غير أوقات العمل الرسمية، والسهر أحياناً حتى السادسة صباحاً ليبذلا مجهوداً يمكن أن يعفيهما منه طابور طويل من الكفاءات والقيادات وأصحاب الثقة وأصحاب الخبرة هو- من وجهة نظرى الشخصية- ما يدعو أحد كبار نجوم وفنانى السينما إلى تعريض حياته للخطر فى إصرار بالغ على عدم الاستعانة بدوبلير، رغم تحذيرات كل فريق العمل، فالنجاح- كما يقول نجيب محفوظ- خمر، والفنان الذى استحق ثقة جمهوره لا يستحق منه جمهوره أن يخدعه، حتى لو كانت حياته هى الثمن. والجمهور هنا هو القارئ الذى جعلته »المصرى اليوم«، منذ اللحظة الأولى، هو رهانها الأول، وربما رهانها الوحيد. ممدوح بدران نائب رئيس قسم المراجعة اللغوية