مرة أخرى، تضع الطبيعة الإنسان فى موقف صعب، لم تدرجه حساباته الاقتصادية ضمن توقعاتها، لتختبر به مدى قدرته على إدارة الأزمات والكوارث البيئية.. والحديث هنا عن كارثة التسرب النفطى التى بدأت منذ بضعة أسابيع بخليج المكسيك (جنوبالولاياتالمتحدة) ولاتزال الحيرة تسيطر على الجميع فى كيفية التعامل معها. بدأت الأزمة فى 20 أبريل الماضى عندما انفجرت إحدى منصات النفط التابعة لشركة «البريطانية للبترول»، ثم غرقها، نتيجة عطل فى صمام الأمان الآلى للبئر القابضة فى قاع خليج المكسيك. ولكن السيطرة على التسرب لم تُحكم حتى الآن.. وقد تسبب الحادث فى فقد 11عاملا اعتبروا فى عداد القتلى. ويقدر معدل التسرب حاليا فى مياه الخليج بحوالى خمسة آلاف برميل يوميا، ربما يقفز- فى أسوأ الاحتمالات- إلى ستين ألف برميل يوميا. أما مساحة البقعة النفطية التى شكلها التسرب– وهى الأخطر فى التاريخ الأمريكى- فتمتد إلى 200 كم طولا وحوالى 110 كم عرضا. فى الواقع، تقول البيانات الرسمية للشركة البريطانية للبترول إن عدد حوادث التسرب النفطى وصل سنة 2009 إلى 234 حادثة تسرب (محدودة الأثر) فى مقابل 335 حادثة سنة 2008، وهو ما جعل الشركة البريطانية تطمئن بذلك إلى نجاحها فى تطبيق سياسة وضعتها سنة 1999 لتقليل تلك الحوادث. ولكن عجز الشركة عن وقف «نزيف النفط» الحالى فى الخليج ينم عن أن سياسة الشركة لم تكن بالكفاءة المطلوبة لعمل مراجعة شاملة لأنظمة الأمان والطوارئ الخاصة بمعدات التنقيب. إن تقييم منهج التعامل مع هذه الكارثة يتطلب بالضرورة النظر إلى مواقف أطراف ثلاثة: شركة البترول، والحكومة الأمريكية سواء الفيدرالية أو حكومة الولاية، ثم المستوى الشعبى أو فلنقل المجتمع المدنى إجمالاً. كان أسرع ردود الأفعال– بطبيعة الحال- من الشركة مالكة المنصة النفطية، محاولة تقليل حجم الخسائر المادية والاقتصادية قدر الإمكان. حيث قامت الشركة البريطانية للبترول بتصنيع «قُمع احتواء» من الصلب– يزن حوالى مائة طن- لإنزاله إلى مياه خليج المكسيك- بغرض السيطرة على النفط المتسرب ثم ضخه إلى السطح وتجميعه. حيث سبق استخدام جهاز مماثل فى الآبار الضحلة، التى تكونت خلال إعصار كاترينا. وعلى خلاف توقعات مصممى القمع فقد غمر الثلج فتحة الجهاز، فأبطل عمله، ما دعا الشركة إلى العمل على ثلاث جبهات لوقف تسرب النفط: حيث تحاول ست غواصات آلية إغلاق صمام أمان البئر الذى يزن 450 طنًّا، إضافة إلى حفر آبار إنقاذ لخفض الضغط وضخ مادة تُوقف عمليات تسرب النفط. فى الوقت الذى ذهبٍت فيه بعض التقديرات إلى أن احتواء الأزمة قد يحتاج ثلاثة أشهر، نظرا لأن مناهج مواجهتها تعتمد على المحاولة والخطأ، وعدم وجود حلول جاهزة أو مضمونة. وحيث اتضح أن الأساليب التقنية المتقدمة تحتاج إلى وقت، فقد ارتأت الشركة البريطانية حاجتها إلى الجمع بين تلك الأساليب والطرق البدائية، وفى ذلك قامت بالتعاقد مع بعض صغار الصيادين لاستخدام سفنهم الصغيرة فى منع البقعة من الوصول إلى الشاطئ، من خلال وضع خراطيم تمنع زيادة التسرب. كما استخدم 270 زورقا لسكب حوالى مليون لتر من المواد الكيماوية لتفتيت بقعة النفط (وهنا يصبح السؤال عما تحمله تلك المواد «غير الطبيعية» من آثار على البيئة البحرية التى استقبلتها، حتى وإن كانت أقل- بكثير- من هذه البقعة النفطية). وهذا الواقع ليس ببعيد عن المنطقة العربية، ويكفى القول هنا إن 75 بالمائة من حوادث التسرب النفطى فى العالم تقع فى مياه الخليج العربى. كما أن مصر ودولاً أخرى كتونس وليبيا ومالطا تخطط لحفر آبار نفط بحرية جديدة، وتستعد إسبانيا لمنح تراخيص تنقيب جديدة عن النفط والغاز قبالة سواحلها الشرقيةوالجنوبية، على الرغم من أن البحر المتوسط بالفعل من أكثر البحار تلوثا. وقد التفتت بعض الدول لأخطار تلك الحوادث، وبدأت فى اتخاذ إجراءات رادعة، ومنها نيجيريا التى أظهرت وعيا فى التصدى للتسرب النفطى. فقبل ثلاث سنوات، أعلن الرئيس النيجيرى أن شركات النفط العاملة فى بلاده ستواجه «غرامات كبيرة» عن أى تسرب للنفط يمكن أن تتسبب فيه أثناء عمليات التنقيب. وهو اتجاه يُحمد لنيجيريا، ويصبح على بقية الدول اتباعه بوضع إجراءات صارمة تضمن مراعاة تلك الشركات معايير الأمن والسلامة أثناء التنقيب، وتقلل من ثم احتمالات نشوب حالات تسرب نفطى. وختاما، فمن المؤكد أن دفع الشركة البريطانية التعويضات –مهما بلغت ضخامتها- لن يعوض الخسائر البيئية التى لحقت بالمنتجعات السياحية وكائنات الحياة البحرية المحيطة والثروة السمكية فى ولايات لويزيانا ومسيسبى وألاباما وفلوريدا جراء هذا التسرب النفطى. ولكن ربما تكون تلك الكارثة البيئية درسا أو فرصة لمراجعة التعامل القانونى مع شركات النفط العملاقة من جهة، والعمل بجدية فى البحث -تدريجيا- عن بدائل الطاقة التقليدية أو زيادة تنويعها.. خاصة فى ظل الفوائد الاقتصادية العالية لاستخدام الطاقة النظيفة والمتجددة التى تأتى كجزء من منظومة أكبر تحتاج مزيدا من الاهتمام– محليا ودوليا- وهى تلك المنظومة المسماة «التكنولوجيا الخضراء». [email protected]