ذلك ما أحمله معى من موسكو التى زرتها قبل أيام.. والسبب أن هذه الزيارة جاءت بالمصادفة أثناء احتفالات الروس بالذكرى الخامسة والستين لانتصارهم على ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية.. وهنا لب الموضوع!.. فى التاسع من مايو من كل عام ترتدى جميع المدن والقرى الروسية أبهى حللها.. يخرج الملايين إلى الشوارع والساحات والميادين إحياء لتلك المناسبة التى توحد شتى الأطياف السياسية.. ينسى الجميع ما جرى من تحولات سياسية وتاريخية.. يختلفون ويتفقون حول دور الزعيم الراحل جوزيف ستالين فى تلك الحرب، لكنهم فى النهاية يرفعون راية الاتحاد السوفيتى إعزازا لسبعة عشر مليون روسى وعشرة ملايين آخرين فى الجمهوريات السوفيتية السابقة ضحوا بأرواحهم تحت هذه الراية فداء للوطن، فى حربٍ يسمونها رسميا (الحرب الوطنية العظمى)!.. أمرٌ فسّرَ لى لاحقا تمسكَ الروس بأن تتضمن مراسمُ حفلات الزفاف زيارة قبر الجندى المجهول، الموجود فى كل مدينة وفى كل قرية، ليضع عليه العروسان باقةً من الزهور عرفانا وتقديرا! بالطبع يأخذ الاحتفال بعيد النصر طابعا خاصا فى موسكو، يخطف الأبصارَ العرضُ العسكرى الذى يجرى فى الساحة الحمراء، ويجد فيه قادةُ الكرملين فرصة للمباهاة بأحدث الصواريخ والمقاتلات!.. تابعت ذلك مرات عديدة على مدى سنوات إقامتى الطويلة فى روسيا، لكنى توقفت هذه المرة أمام لقطات بعينها، محورها الأساسى فئة قدامى المحاربين الذين يتناقص عددهم تدريجيا، إذ يتجاوز اليوم أصغرهم ثمانين عاما!.. يحظى هؤلاء برعاية خاصة وميزات عديدة من الحكومة باعتبارهم صناع ملحمة النصر، لكن اللافت بالنسبة لى هو مشاعر الاحترام والتقدير التى يغرسها الروس فى نفوس أبنائهم تجاه تلك الفئة.. لا أحد يجبرهم على ذلك، بل يقومون به عن طيب خاطر!.. لم تكن المرة الأولى التى أشاهد فيها أطفالا وفتيانا وشبابا من مختلف الأعمار يتسابقون لتقديم الورود مصحوبة بأسمى آيات الشكر إلى قدامى المحاربين، ومع ذلك داهمنى شعور بالغيرة!.. كنت أرقب تلك المشاهد الرائعة فى حديقة النصر وسط موسكو وفجأة تذكرت أبطالنا الذين مازالوا على قيد الحياة من المشاركين فى حروب 56 و67 والاستنزاف وأكتوبر، أولئك الذين حملوا أرواحهم على أيديهم ثم خرجوا من المولد بلا حمص أو ترمس!.. قارنت حالهم مع حال نظرائهم الروس فامتزجت غيرتى بحزن عميق، ولم أملك صد جملة من الأسئلة الملحة: أليس من حق محاربينا الذين يعانون شظف العيش الحصول على مقومات حياة كريمة خلال ما تبقى لهم من عمر؟.. أليس من الغريب أن تظل أعيادنا الوطنية مثل نصر أكتوبر أو تحرير سيناء أعيادا حكومية بمعزل عن رجل الشارع؟.. أليس من المخجل أن نختزل احتفالاتنا بهذين العيدين العظيمين فى أغان جوفاء يؤديها الإخوة تمورة وحمادة وهيثم؟!.. حتى أغنية الرائعة شادية (يا حبيبتى يا مصر) ابتذلناها باقتدار وجعلناها خلفية لأبطال هذا الزمان عماد متعب وعمرو زكى أثناء صولاتهما الكروية!.. أليس من المدهش أن نتذكر علمَنا فنرفعه فقط فى البطولات الرياضية وننساه تماما فى الأعياد الوطنية؟!.. أسئلة دفعتنى إلى حقيقة مفادها أن الدول تنقسم من حيث تعاملها مع تاريخها وأبطالها الوطنيين إلى 3 أنواع: دول ذات تاريخ عريق تحافظ عليه وتعلم أطفالها الفخر والاعتزاز به، ودول تجتهد وتصارع لتصنع لنفسها تاريخا وأبطالا، ودول مثلنا تملك التاريخ والأبطال والبطولات لكنها تتجاهلهم ليل نهار!. [email protected]