على رصيف إحدى المدارس الابتدائية، جلس مرتدياً بذلة خضراء متسخة، يقطعها شريط أحمر مكتوب عليه «هيئة نظافة وتجميل القاهرة»، وأمامه «ملاية» صغيرة، وضع عليها بضاعته على أمل أن تجذب الأطفال، وهى: بوسترات ل«تامر حسنى ومى عزالدين وأبوتريكة وجدو»، وألعاب كوتشينة بلاستيكية، بالإضافة إلى صور النجمين التركيين نور ومهند. محمد أحمد السيد –54 عاماً– الذى يفضل لقب «أبودينا»، يعمل فى الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة منذ ما يزيد على 12 عاما، جاب خلالها جميع أنحاء القاهرة، واستقر حاليا فى العمل فى منطقة مصر الجديدة، وتحديدا «الميرغنى» والشوارع المقابلة لقصر الرئاسة، ومع ذلك لا يتعدى راتبه 495 جنيهاً بالحوافز، وهو بالطبع لا يكفى احتياجات دينا وميادة ونرمين، بناته الثلاث، المسؤول عن رعايتهن ليس ماديا فقط بل معنويا بعد أن توفيت والدتهن منذ 5 سنوات، ومن أجلهن قرر ألا يتزوج. يحاول «أبودينا» كثيرا فى بداية كل شهر أن يجعل راتبه يتوافق مع احتياجات البيت، يحرم نفسه من أبسط حقوقه المعيشية حتى يوفر لبناته احتياجاتهن، لكن دون جدوى، وهو ما دفعه للتفكير فى خوض تجربة الجلوس على الرصيف وبيع بضاعة بسيطة، ولا يرى أى تناقض بين عمله فى وظيفة حكومية من ناحية، وافتراشه الرصيف كالباعة الجائلين من ناحية أخرى: «مرتبى ما بيكفنيش لا أنا ولا بناتى، ومش عارف أعمل إيه، ففكرت أروح أشترى حبة حاجات من الموسكى ورمسيس، وأفرش قدام مدرسة الأطفال وأبيعها، يعنى ما بقعدش أكتر من ساعة فى الشارع، بس مشكلتى إن ده بيبقى وقت عمل رسمى، فبستأذن من مديرى، ساعات بيرضى يسيبنى وساعات لأ، وآهو ربنا بيكرم». عندما يسرح «أبودينا» بخياله يحلم بأن يقابل الرئيس مبارك، ويتخيل ما سيطلبه منه: «يا ريس أنا بس عايز مرتبى يزيد شوية عشان العيال»، ثم يفيق سريعا من أحلامه التى يتيقن من استحالة تحقيقها. أحلام «أبو دينا» بسيطة، تتعلق جميعها ببناته، وتنحصر فقط فى أن يستطيع أن يوفر لهن وجبة مكونة من «اللحمة» أكثر من مرة واحدة فى الشهر، ففى بداية كل شهر، وبمجرد حصوله على راتبه الضئيل، يذهب ليشترى كيلو لحم أو «فرخة»، تكفى وجبة واحدة لا تتكرر مرة أخرى على مدار الشهر، لذلك يحاول العمل كثيرا حتى يستطيع أن يكرر تلك الوجبة من مرتين أو ثلاث مرات خلال الشهر: «أنا مش عايز آكل لحمة أو فراخ، أنا أكلت كتير زمان وشفت العز كله أيام ما كنت بشتغل نقاش قبل ما حرب الخليج تقع وحالى يقف، لكن بناتى ذنبهم إيه، أنا نفسى أأكلهم لحمة».