القط أسود أم أبيض؟

«لا يهم أن يكون القط أسود أم أبيض، فمادام قادراً على اصطياد الفئران فهو قط جيد».. هذا ما صاغه الزعيم الصينى «دينج شياوبنج» خليفة «ماو» عند بدء عملية انفتاح الصين فى أواخر السبعينيات، واعتبره الباحث الصينى «زهاو يون بينج» فى مقاله بصحيفة «البيان» الإماراتية التعبير الجيد عن تحول الصين وانفصالها عن أخلاقها التقليدية التى صيغت على مدار آلاف السنين، وانبنت على الحكمة والموعظة والتطهر الإنسانى.
فالمجتمع الصينى يركض سريعاً فى معرض تخليه عن كلاسيكيات ضاربة فى التاريخ، ومن يزر بكين سيلحظ الأمر منذ لحظة الوصول إلى مطارها الدولى، «أهلاً بالأصدقاء» عبارة ترحيب تصطف أعلى صالة الوصول بلغات عديدة من بينها العربية، تتوقع عند قراءتها أنك ستغرق فى بحر من الحميمية والاهتمام، ولكن بعد لحظات انتهى الحلم مع أول وجه التقيته فى منافذ الجوازات، وبدأت من وقتها فى رصد لحظات الصداقة النادرة التى رأيتها خلال أيام قضيتها فى رحاب أصحاب لغة الثلاثة آلاف حرف.
أوقعنى حظى العثر فى دائرة الاستغلال كلما تجولت فى شوارع بكين، فاعتبرنى الجميع سائحاً ينبغى إخراج ما فى جيبه من دولارات، وقد كان، تعرضت لمواقف كنت أظنها مصرية مائة فى المائة مثل ركوبك تاكسياً ويرفض السائق أن يحاسبك بالعداد، وتضطر أن تدفع له ما طلبه رغماً عن أنفك فلغة التفاهم غائبة، فهو لا يعرف الإنجليزية، لم أدرك هل هو نوع من الاعتزاز بالثقافة أم جهل بأصول السياحة.
عبادة المال ستفزعك، فاليوان «العملة الصينية» هو الذى يتحدث وأمامه يخفت أى شىء، فإذا خرج «اليوان» انحنت القامات وتذلل الجميع بدءاً من محال الملابس حتى دكاكين «المساج»، والصينيون منشغلون حالياً بعمل درامى يعكس التوجه المادى للمجتمع الصينى عنوانه «مساحات مكتظة» يدور حول فتاة بريئة تبلغ من العمر 25 عاماً تتعرض للإغراء من قبل سكرتير العمدة الوسيم الناجح، فتقع فى حبائله رغم أنه متزوج وتستسلم للغواية فى مقابل مبلغ مادى وشقة فاخرة.
قصة الفتاة «جيو» تعبر عن أزمة الأخلاق فى الصين، حيث شعار الثراء بأى ثمن، فمثل «جيو» كثيرات فى شوارع الصين، قد تلتقيك إحداهن لتطلب منك مرافقتها إلى «نايت كلوب» لاحتساء كأس بيرة أو معاقرة الخمر من أجل حفنة «يوانات»، قد يكون التعميم فاسداً لكننا نسرد مشاهدات من معقل التنين الأصفر، وتساندها رؤى وأفكار للصينيين أنفسهم عن أحوالهم التى تلخصها عبارة «شعب رأسمالى يفكر بالشيوعية وتحكمه نخبة مغلقة تكره الإنترنت».
الرسوخ فى التاريخ والجذور التى تمنحك ميزة حضارية عن غيرك من الشعوب تدفع إلى النفس مشاعر التميز والتفرد لكن فى لحظة الانفصال عنها تحل محلها مشاعر الدونية، فالمال لا يصنع الإنسان وإنما العكس، وإذا كانت مدونات السلوك فى المجتمع الصينى قد غرقت فى المادية، فإن أخلاق كونفشيوس باقية للاستزادة والتقوت لصين عصرية لكنها أخلاقية.
اجتذب مؤخراً أحد مواقع الزواج على الإنترنت عشرة آلاف فتاة صينية ترغب فى الزواج من مليونير مجهول، دون أى معلومات عن شخصه أو رسمه، فالمهم هو جيبه، ويؤشر هذا الأمر بوضوح إلى التغير فى معايير الاختيار لزوج المستقبل لدى الصينيات.
العملاق الأصفر الذى غزا العالم، يعيش نهضة بلا أخلاق، ويتناسى ميراث بوذا وأنهار الحكمة التى تجرى مثل «اليانغستى» فى أرض «المندرينية»، ويتجاهل الحكمة الصينية القديمة «بالمال يمكنك أن تشترى سريراً وليس نوماً، تشترى كتاباً وليس معرفة، تذهب إلى الطبيب ولكن لا تستطيع أن تشترى الصحة، تشترى منصباً وليس احتراماً، تشترى دماً وليس حياة».
عدت من مطار بكين، ومعى ذكريات لا تنسى عن معجزة حيرت العالم لكننى وجدتها مثل الفقاعة قد تخبو وتختفى فى لحظات، وعادت معى الدهشة والانبهار بالحضارة العظيمة التى وجدتها بين طرقات المدينة المحرمة، وفى أعلى نقاط سور الصين العظيم.
alaa_alghatrifi@yahoo.com