«البرادعى بات حالة تستحق التحليل الدقيق».. هكذا أنهينا سوياً نقاشنا فى المقال المنشور هنا يوم الثلاثاء الماضى.. قلنا إن خطر «الاحتراق» المبكر يهدد الدكتور محمد البرادعى، مثلما حدث مع معارضين وأحزاب سياسية أخرى، وقلنا أيضاً إن النظام الحاكم يتمتع بذكاء شديد فى التعامل مع كل القوى السياسية.. هذا الذكاء المستمد من قوة الدولة أمنياً، وتجارب سنوات طويلة من «الممارسة السياسية» القائمة على هدف واحد هو الحفاظ على بقاء النظام، دون حدوث صدام مباشر مع الشارع.. هكذا تسير الأمور منذ نصف قرن أو يزيد، مع اختلاف الأدوات بين عهد وآخر..! اعتمد «عبدالناصر» على كاريزما القيادة والإقناع الشخصى دون إنجاز حقيقى، فسارت خلفه الجماهير، وغفرت للدولة فشلها، واستند «السادات» إلى صيغة «رب العائلة»، والرئيس المؤمن، والإصلاحات الشكلية، فتحول إلى «كاريزما» من نوع آخر.. الفلاح البسيط الجالس على «المصطبة» مع البسطاء، فأحبه المصريون، دون أن يسألوا أنفسهم «أين نحن من العالم الذى يتحرك نحو السماء»..؟! لا يمتلك الرئيس مبارك كاريزما عبدالناصر ومشروعه القومى، ولا البساطة المفرطة والمغامرات السياسية للسادات.. ولكنه يمتلك ما هو أكثر خطورة وقدرة على بقاء النظام لأطول حقبة ممكنة.. «الدهاء الريفى السياسى» إذا صح هذا التعبير.. دهاء يحافظ على الجمود دون أن تتجمد الدماء فى الشرايين.. حياة تشبه أوقات ساكنى المقابر والعشوائيات.. لا شىء تخسره، ولا أمل فى شىء تكسبه.. لا رهانات.. لا مغامرات.. لا خطوات حاسمة.. لا وجوه جديدة.. ولا تحولات حادة.. وبالتالى لا يحدث السقوط المفاجئ لدولة عبدالناصر، ولا يقع الصدام العنيف الذى أنهى دولة السادات..! الشعب فى دولة عبدالناصر كان أداة لتسويق مشروع شخصى لم يتم.. والشعب فى دولة السادات كان ممثلاً ومتفرجاً فى عرض مسرحى شديد الإثارة.. والشعب فى دولة مبارك ديكور يحافظ على الشكل فى مسرح الممثل الواحد.. لذا فليس من المنطقى أن يتحرك «البرادعى» دون أن يدرك ذلك.. غير أن طريق التحرك سوف نأتى إليه لاحقاً.. ومن قبله لابد أن نعرف ما الذى أضافه هذا الرجل للمشهد السياسى المصرى.. تلك الإضافة التى حشدت الكثيرين حوله.. فى ظنى أن البرادعى جاء بثلاثة أبعاد، افتقدها المجتمع فى النخبة المطروحة على الساحة خلال السنوات الماضية: أولاً: يبدو البرادعى بديلاً بلا تاريخ مثير للجدل أو خصومات أو مواقف تحسب عليه مع القوى السياسية أو فى أذهان الناس.. هو رجل طازج بلا أرشيف مخجل أو سقطات أو حسابات داخلية. ثانياً: يأتى الرجل من مساحة العلم والتجربة الدولية الواسعة، لذا فالمخاوف من افتقاد مصر لعلاقاتها الإقليمية والدولية المستندة إلى شخصية الرئيس مبارك تبدو مع البرادعى ضئيلة للغاية، بعكس شخصيات أخرى طرحت نفسها بديلاً بلا عمق دولى. ثالثاً: ليس لدى البرادعى ما يخسره فى مواجهة النظام الحاكم.. فقد صنع تاريخه.. وكفى.. ولا ينتظر مكافأة النظام بمنصب شرفى، ولا يحتاج رضاه كى يحظى بالمكانة.. فالمجتمع الدولى يوفر له ذلك دون تكلفة من سمعته أو تاريخه أو مواقفه. .. وإذا كان الموقف هكذا بين النظام الحاكم والدكتور محمد البرادعى.. فكيف ستكون المواجهة بين الطرفين.. وما الأسلحة التى يمتلكها كل طرف.. والأهم ما الخطة المناسبة للبرادعى فى مواجهة هذا الوضع.. وللحديث بقية. [email protected]