بابتسامة عريضة يستقبل «رمضان» زبائنه مبتسماً، ففى هذا الوقت من كل عام اعتاد «رمضان» على زيارة مصريين للندن، فضلاً عن الجالية المصرية هناك، وكلهم يمرون على محل الآيس كريم الذى يعمل به هناك.. فى شهر رمضان، يحتفل «رمضان» بمرور 8 سنوات على وجوده فى لندن، ويتذكر أيامه الأولى فى عاصمة الضباب: جيت أدور على فرصة عمل، بعدما تركت دراستى فى كلية الآداب جامعة طنطا، بصراحة حسبتها ولقيت ان التزاماتى تجاه أسرتى وإخواتى البنات أهم من التعليم، وقلت بدل ما اضيع وقت فى الجامعة واتخرج اقعد على القهوة أروح ادور على شغل أحسن. بدأ «رمضان» رحلته فى عاصمة الضباب بالعمل فى مصنع خضروات، ورغم ذلك كان سعيدا بعمله، ويبرر: الشغل هنا مختلف جدا عن الشغل فى مصر، هنا منظمين والناس مش معقدة وما عندهاش مرض السلطة.. ويحكى «رمضان» عن مديره فى المصنع، الذى كان يحصل على 50 ألف جنيه إسترلينى كراتب فى السنة، ورغم ذلك كان يساعد «رمضان» فى جمع القمامة قائلاً: بصراحة ما صدقتش نفسى لما لقيته بيعمل كده، أصل ده عمره ما بيحصل فى بلدنا. فرص العمل فى لندن محدودة جدا لأن كل الوظائف تتطلب كفاءات معينة، حسب تأكيد «رمضان»، لدرجة أن العامل الذى يركب مواسير الغاز فى المنازل يخضع قبلها لاختبار، ويقول «رمضان»: برضه هنا أحسن من مصر، لأن مصر ما فيهاش فرص من أساسه، أنا صحيح باشتغل فى محل آيس كريم لكن قادر أصرف على بيتى ومراتى هنا، وعلى أسرتى فى مصر، يعنى فاتح بيتين. وهروبا من كل العادات والتقاليد المرتبطة بالزواج، التى تعرقله فى أحيان كثيرة، قرر «رمضان» الزواج من برتغالية دون هذه التكاليف التقليدية: كتبت كتابى فى المسجد وعزمت أصحابى على الغدا، ليه أعمل جمعية واكتب على نفسى شيك وادفع 100 ألف جنيه علشان حاجات مش ضرورية؟! يمر من أمام المحل ضابط شرطة فيقول «رمضان»: «هنا مفيش حد ممكن يوقفك ويسألك عن بطاقتك ويقول لك إنت رايح فين وجاىّ منين، لأن ده بالنسبة لهم تصرف غير محترم وغير إنسانى». ويروى «رمضان» واقعة تعرض لها قبل سفره بثلاثة أشهر، عندما أوقفه ضابط مصرى وفتشه ثم طلب بطاقته، وبعدها قطعها أمامه وطلب منه استخراج بدل فاقد، ويقول: فضل مقعدنى جنبه ساعة إلا ربع وفى الآخر عمل كده مش عارف ليه. ويكمل «رمضان»: «أول ما جيت لندن كنت مرة طالع من سوبر ماركت شايل حاجات كتير فخبطت فى ضابط انجليزى وانا ماشى، فلقيته عمال يعتذر لى ويلم الحاجات معايا من الأرض، ما كنتش مصدق نفسى ازاى يعمل كده، لأن انا متعود على الضباط فى مصر». يحب «رمضان» شهر «رمضان» فى لندن، فهناك يجد حرية كبيرة فى ممارسة شعائره الدينية، ربما أكثر مما يجدها فى مصر: على الأقل لما بيبقى عندى وقت فاضى باقدر اعتكف فى المسجد، لكن فى مصر لو عملت كده هاروح المعتقل. ورغم اختلاف الديانة والعادات والطباع، وأزمة الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر، فإن «رمضان» يؤكد أن الإنجليز على خلق أفضل من المصريين: جارى مرة خبط عليا علشان يستأذن يعلى صوت الكاسيت، فى مصر الجيران بتعلى الكاسيت من غير ما تستأذن، ولو حد اشتكى مش بيعبروه.. وبصراحة انا مش خايف على أولادى من المجتمع هنا لأنى شايف إن الأطفال بيطلعوا متربيين أكتر من الأطفال فى مصر. هنا الطفل بيقول لأبوه من فضلك ولو سمحت، عمر حد سمع طفل فى مصر بيقول كده؟! تقطع الحديث سيدة عربية تطلب آيس كريم، وبعد رحيلها يقول «رمضان»: «الانجليز بقى بيشتكوا جدا من العرب لأن المصريين كمثال بيتعاملوا هناك بمنطق بفلوسى.. ومن يومين سمعت سواق إنجليزى كان بيشتكى من العرب لأنهم بيركبوا من غير ما يقولوا شكرا، وفى مرة قال لأحدهم: (طب قول لى شكراً)». وفى المحل نفسه، يعمل «محمد» وهو أيضاً فى الثلاثينيات من عمره، تخرج فى كلية التجارة قسم اقتصاد وحصل على دبلومة دراسة جدوى. ثم انتقل للندن قبل عام ونصف العام، وإلى جانب عمله فى المحل، يحضر دراسات تؤهله للعمل كمحلل مالى. يروى «محمد» ذكريات أيامه الأولى فى لندن: الواحد كان فاكر إن كل البلاد بتمشى زى مصر لكن لما سافرت اكتشفت إن مصر ماشية لوحدها خالص.. أنا عمرى ما فهمت الخطوط البيضا اللى فى الشارع دى بتاعة إيه، كنت فاكرها معمولة علشان تزوق الشارع، لكن لما جيت هنا فهمت إنها حارات للعربيات. يشير «محمد» إلى مجموعة من فاقدى البصر يمرون أمام المحل ويقول: «كفاية انك تمشى فى الشارع علشان تعرف الفرق بين هنا ومصر، الناس دى ماشية عادى ومش متضايقة. مفيش رصيف عالى أو بلاعات أو طوب مكسر، وهنا البنت ممكن تمشى فى الشارع الساعة 4 الفجر ومحدش يضايقها، قعدوا يضحكوا علينا ويقولوا لنا الانجليز باردين وما عندهمش دم، ولما جيت لقيتهم عكس ده، أبسط مثال إن لما واحدة حامل بتركب المترو كل الناس بتقوم لها». ورغم مهنته البسيطة، يؤكد «محمد» أنه يحصل من خلالها على راتب كاف يستطيع من خلاله العيش فى مستوى مناسب، وتوفير مبلغ كل شهر: كفاية إن المرتب بيكفى الإيجار والمواصلات والفسح، ويفضل كمان أجيب لاب توب، وعلى فكرة، ده شغل إضافى، أمال لو شغل أساسى الوضع كان هيبقى أفضل بكتير. ويقول «محمد»: رغم انبهار الأجانب بمصر وتاريخها، فإن المصرى سمعته فى العمل سيئة ودلوقتى بقى معروف إن أى حد بدقن ما تعملش معاه شغل، أنا ليا اصحاب فى المقاولات، لما بييجى لهم شغل مع مصريين بيرفضوه ولما بييجى لهم شغل مع يهود بيروحوا يعملوه على طول، اليهودى له سمعة طيبة ودايما يديك حقك». يرجع «محمد» بالذاكرة للوراء قليلا ويقول: «قبل ما اسافر كنت اقعد اقول بلدنا أولى بينا، واسمع فى أغانى عايدة الأيوبى، وكل الكلام ده، وعمرى ما فكرت فى السفر، لكن بعد ما سافرت اقتنعت ان بلدنا ولا أولى بينا ولا حاجة واكتشفت انى كنت مغفل». وينتقد «محمد» الاتهامات التى يوجهها الكبار للشباب الذين يتركون البلد، سعيا وراء فرص العمل: قائلاً «اللى إيده فى الميه مش زى اللى إيده فى النار، وإذا كان على التغيير اللى قاعدين فى البلد يغيروها، إحنا خلاص مشينا».