في صباح الأربعاء الماضي، كانت ساعة البداية كأي يوم عادي بالنسبة لهما.. «حذيفة»، صاحب اليد الذهبية في صيانة الهواتف، و«محمود»، رفيقه وصديقه، كانا في طريقهما لمركز صيانة الموبايلات في منطقة الحصري بمدينة 6 أكتوبر، بينما كانا يركبان السيارة الكهربائية الصغيرة التي اعتادا استخدامها للتنقل داخل المدينة، انفجر خط الغاز على طريق الواحات، في حادث غير متوقع كان أسرع من أي رد فعل، الحرارة التي سببتها الانفجارات جعلت الهروب مستحيلًا، لتتحول اللحظة إلى صراع مرير مع الموت. «قرب انفراجة السير.. انفجر خط الغاز» «ما كانش فيه وقت حد يهرب، كله كان أسرع مننا»، يروي أحد أصدقائهما. «انفجر كل شيء من حولهم، والعالم كله انهار فجأة». الحروق التي أصيبا بها كانت شديدة، وبالرغم من محاولات الأطباء ووجود أمل بسيط في النجاة، بعد 6 أيام من الألم والمعاناة داخل المستشفى، لفظ كل من «حذيفة» و«محمود» أنفاسهما الأخيرة. وارتفع عدد الضحايا في الحادث إلى 6، في مأساة كانت نتيجة إهمال جسيم، حسب ما أشارت تحقيقات النيابة العامة وأهالى المتوفين والمصابين، الذين اتهموا الشركات المعنية بعدم التنسيق بين الحفر وخطوط الغاز. كان «حذيفة» يحب أن يصوّر كل جهاز قبل وبعد إصلاحه، يقلب التليفون المكسور بين يديه، يزيل الغبار من اللوحة الأم، يبدّل قطعة بقطعة، ثم يبتسم للصورة الأخيرة.. الصورة التي يقول فيها: «كده تمام.. رجّعناه أحسن من الجديد»، لم يكن يعرف أن الصورة الأخيرة ستكون هكذا. صباح يوم الحادث، استيقظ مبكرًا كعادته، ودع زوجته، اتجه إلى مركزه في الحصري. صديقه وزميله «محمود» كان رفقته، إذ على طريق الواحات، قرب انفراجة السير، انفجر خط الغاز. «كان دايمًا أول واحد يساعدنا» كانت اللحظة قاتلة، «حذيفة» و«محمود» كانا في السيارة الكهربائية الصغيرة التي اعتادوا استخدامها للتنقل داخل المدينة، السيارة التي لم تمنحهما فرصة للهروب، فالانفجار كان أسرع من أن يفلتا منه بفتح الأبواب والنزول إلى الشارع. الحرارة كانت لا تُطاق، والسيارات والأرض والجدران المحيطة كانت تحترق، في تلك اللحظة، لم يعرفوا ما الذي سيحدث بعد. «محمود» سقط مٌصابًا، وكذا صديقه «حذيفة»، الذي كان يركض دومًا نحو كل شيء صعب، وحاول أن يتمسك بالحياة، وفق معتز قناوى، صديقهما. أُصيب «حذيفة» بحروق شديدة وصلت نسبتها إلى 70٪. أُدخل إلى أحد المستشفيات لعلاج الحروق، حيث تعالت أصوات الدعوات من جميع من عرفوه. «كان دايمًا أول واحد يساعدنا»، يقول أحد زبائنه. «ما كانش يرضى حد جاي له بمشكلة، وكان يبذل أقصى درجة علشان يخلّص الشغل». الأيام التي تلت كانت أصعب من الحادث ذاته، الأيام التي ظن الجميع فيها أن «حذيفة» سينجو. لكن للأسف، بعد 6 أيام من الألم والمعاناة، توفى الشاب العشريني متأثرًا بجراحه، أما «محمود»، فقد رحل في اللحظة نفسها، لم يستطع أحدهما الهروب من مصير اللحظة المشؤومة. «كان بيحب شغله أوي.. وكان عنده حلم يفتح فرع تاني، ويجيب شباب زيه يعلّمهم.. كان بيقول لي: عايز أي حد يدخل عندي، يخرج مبسوط وموبايله سليم»، قالتها إحدى زبوناته السابقات، ثم انهارت بالبكاء. «تيتا وصّلتها بالعربية بتاعتها» في نفس اليوم، وفي مكان قريب، كانت ناهد أحمد عبداللطيف، الستينية التي أنهت سنواتها الطويلة في وزارة الأوقاف، تصطحب حفيدتها الوحيدة، «منة الله»، الطالبة بالفرقة الثالثة بكلية طب الأسنان بإحدى الجامعات الخاصة، إلى درسها. يوم الحادث كان إجازة في المدارس وحركة الطريق هادئة، استيقظت منة مبكرًا، نظرت إلى جدتها في المطبخ. «هتوصّليني النهارده يا تيتا؟». قالتها وهي ترتّب شنطة طب الأسنان، كانت الساعة تقترب من الخامسة مساءً. «تيتا وصّلتها بالعربية بتاعتها»، يحكي الجد ثروت فتحي الطويل، بصوت خافت متعب. «أنا شوفت العربية في الصور.. متفحمة.. لا مستشفى ولا حاجة.. زوجتي راحت في ثانية». انفجار ماسورة الغاز، لم يُعطِ وقتًا لأحد ليتراجع. حذيفة ومحمود وجدّة «منة»، كلهم كانوا هناك، كلهم لم يكونوا المستهدفين. فقط عابرو سبيل، اختطفهم القدر من زوايا مختلفة، وجمعهم في لحظة قاتلة واحدة. «بقت بين الحياة والموت» بعد الانفجار، عاد «أيمن» – والد منة – من قطر. فجر الخميس الماضى، كان في المطار، يبحث عن خبر، عن جملة واحدة تقول إن ابنته بخير. وجد هاتفًا يرن، وصوتًا يقول: «بنتك في مستشفى أهل مصر.. على تنفس صناعي». في المستشفى، الجدة لم تكن هناك، لم تُنقل، لم تُسعف، لم تصل، فقط ذهبت، وتركت حفيدتها تصارع الألم. «منة حالتها خطيرة»، قالها الطبيب لوالدها. «الحروق فوق 70٪.. بس لسه في أمل». منذ ذلك اليوم، لم يخرج «أيمن» من الغرفة. زوجته «لمياء» تجلس على الأرض قرب الباب. عينها لا تغمض. «مش معقولة بنتي.. بنتي اللي كانت بتضحك الصبح.. بقت بين الحياة والموت». أما «حذيفة»، فصوته لم يُسمع بعد الحادث، أصيب في الوجه، في اليد، في الصدر. كان يتنفس عبر الأجهزة، ينظر أحيانًا، ويغلق عينيه كثيرًا، زملاؤه في المجال أطلقوا دعوات له بالرحمة. «ده اللي عمره ما خذل حد»، كتب أحدهم. «محمود»، صديقه وزميله، لم يدرِ بأن «حذيفة» جواره إلى سرير بالعناية المركزة. لم يعرف أن مصر كلها ستعرفه بعد الرحيل، لم يرَ المنشورات، ولا الدعوات، ولا صور الورود التي وُضعت على باب المحل. «بندعي لها ليل نهار» قبل تحضيرات الجنازة، عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي كتبوا: «حذيفة بطل»، «محمود شهيد العمل». أمهات تبكي بحرقة، وآباء يربتون على كتف بعضهم بصمت. لا كلمات في وداع كهذا. لا كلمات تكفي، يقول أحدهم. الجدة «ناهد»، اسمها أصبح مرادفًا للحنان في كل منازل حيها، كانت تشتري الحلوى للأطفال، توصل حفيدتها للدروس، تزرع الريحان على شرفتها، وتقول دومًا: «البيت الكبير من غير ضحك الأحفاد ملهوش معنى». اليوم، غابت ضحكتها، وملأت المنطقة محل سكنها في حدائق الأهرام بالجيزة، لافتات: «الفقيدة ناهد عبداللطيف.. زوجة الأستاذ ثروت الطويل.. ورفيقة عمره». في غرف العناية المركزة، لا تزال «منة» تصارع الموت، عيناها مفتوحتان قليلًا، والدها على يمينها، والدتها على يسارها، وصورتها الصغيرة في جيب الطبيب. «بندعي لها ليل نهار»، يقول الجد. «مش قادر أستوعب إن حفيدتي اللي كانت بتذاكر الصبح.. اتحرقت قدامي». على مواقع التواصل، صورة «حذيفة» و«محمود» تتكرر، مقاطع فيديو من ورشة الصيانة، صوت «حذيفة» وهو يضحك، يشرح كيفية تغيير البطارية. آلاف التعليقات، بعضها من زبائن لم يلتقوه إلا مرة، وبعضها من أصدقاء عمرهم سنين.