الجامعات والتعلم مدى الحياة (1)

أشرت فى مقالاتى السابقة بجريدة «المصرى اليوم»، بعد الحديث عن ثقافة التعلم مدى الحياة (Life-Long Learning) وما شهدته من تطور فى الأهداف والسياسات فى عصر المعرفة والتكنولوجيات الذكية والتحول الرقمى بالألفية الثالثة، إلى إجماع الدراسات والرؤى الاستراتيجية على المستوى العالمى على ضرورة تنامى دور الجامعات فى دعم التوجه نحو «التعلم مدى الحياة» أو استدامة العملية التعليمية والتثقيفية من المهد إلى اللحد. وأضفت أنه نظرًا لما تُمثله الجامعات ومؤسسات التعليم العالى من مراكز لإنتاج المعرفة، فإنها تُعد فى وضع ملائم لتطوير وتوفير فرص التعلم مدى الحياة للأشخاص من جميع الأعمار والخلفيات. ورغم أن برامج الدراسة الرئيسية- مثل درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه– وإنتاج المعرفة من خلال البحث والتطوير وتنمية المهارات المعرفية والذهنية، ستستمر فى تشكيل مهمتها الأساسية، فإن مؤسسات التعليم العالى يتعين أن يكون لديها بالمثل توجه رئيسى لتعزيز «التعلم مدى الحياة» من أجل مواجهة العديد من التحديات المُرتبطة بمواكبة عصر التحول المعرفى الراهن. ويتحدد دور الجامعات فى هذا المجال بإعادة تشكيل مهمتها الثالثة «لخدمة المجتمع وتنمية البيئة» لتقديم برامج للتعلم مدى الحياة وفق مفهومه الشامل، من خلال مراكزها للتعليم المفتوح (أو مراكز التعلم المُدمج أو التعليم المستمر وفق التعديلات الأخيرة) للاضطلاع بهذه المهمة الرامية إلى تحول المُجتمع المصرى إلى مجتمع مُتعلم ومعرفى. وهو ما يتم فى الوقت الراهن بشكل متسارع عالميًا على مستوى مؤسسات التعليم العالى بالدول المُتقدمة والنامية بحد سواء.
وفى هذا الإطار، أطلق معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة (UNESCO-ILL) بالاشتراك مع الاتحاد العالمى للجامعات (IAU) وجامعة شنجهاى الحرة (SOU) فى عام (2023) تقريرًا بحثيًا اعتمد على نتائج مسح إحصائى تم إجراؤه فى عام (2020) على نحو (399) مؤسسة للتعليم العالى فى أكثر من (96) دولة على مستوى العالم عن دور مؤسسات التعليم العالى فى دعم استراتيجية «التعلم مدى الحياة». كما تضمن التقرير نظرة عامة شاملة على تطوير التعلم مدى الحياة فى قطاع التعليم العالى فى جميع أنحاء العالم. وتُوفر نتائج الدراسة الاستقصائية الدولية المقدمة فى هذا التقرير معلومات مهمة وفريدة من نوعها حول كيفية مساهمة مؤسسات التعليم العالى فى التعلم مدى الحياة. حيث يستند تصميم المسح إلى فهم شامل للتعلم مدى الحياة فى ضوء المهمة الثالثة لمؤسسات التعليم العالى، التى تتجاوز مجال التعليم المستمر، وتشمل بنودًا مثل مسارات التعلم المرنة، والمشاركة المجتمعية، ومساهمة مؤسسات التعليم العالى فى التنمية المستدامة. وتتضمن نتائج الدراسة عددًا من التوجهات والسياسات عن دور الجامعات فى تحقيق استراتيجية «التعلم مدى الحياة» وفق مفهومها الحديث فى عصر المعرفة بالألفية الثالثة. ومن هنا، يوضح التقرير كيف ساهمت مؤسسات التعليم العالى فى التعلم مدى الحياة، ويظهر مستويات التقدم فى مختلف مجالات التنفيذ. وينظر التقرير فى ثلاثة جوانب رئيسية لإضفاء الطابع المؤسسى على مفهوم «التعلم مدى الحياة» فى التعليم العالى. أولها: البيئات السياسية الداعمة لتعزيز التعلم مدى الحياة (LLL) فى التعليم العالى، وثانيها: الحوكمة المؤسسية وبدائل التطبيق أو التنفيذ، وثالثها: وسائل ومدى قدرة توسع مؤسسات التعليم العالى فى نطاق الوصول إلى معظم فئات المجتمع من جميع الأعمار والمتطلبات من خلال التنوع والمرونة.
وبشكل عام، يقدم هذا التقرير نظرة عامة على العلاقة بين التعليم العالى والتعلم مدى الحياة فى جميع أنحاء العالم. وبعيدًا عن كونها قضية مازالت هامشية للجامعات، يُعد التعلم مدى الحياة ذا أهمية مركزية بالنسبة للكثيرين. ومع ذلك، بالنظر إلى التحديات التى تنتظرنا، مثل الشيخوخة ومستقبل العمل والرقمنة وتغير المناخ، لا يمكن إضاعة الوقت فى جعل مجتمعاتنا واقتصاداتنا مرنة. ومن ثم يجب بذل المزيد من الجهد لإرساء ثقافة التعلم مدى الحياة داخل مؤسسات التعليم العالى. فالتعلم مدى الحياة أمر أساسى لمستقبل مستدام. ومن ثم فإن هذا التقرير يُمثل أيضًا دعوة إلى مجتمع التعليم العالى العالمى لمواجهة التحديات الملحة للقرن الحادى والعشرين، من خلال التعلم مدى الحياة.
وتفيد الدراسات والرؤى المُستقبلية أنه من خلال الالتزام بالتعلم مدى الحياة كجزء من مهمتها، يمكن أن تعمل مؤسسات التعليم العالى كعوامل مؤثرة فى مواكبة التغيرات المتسارعة بالعصر المعرفى الناشئة بشكل رئيسى عن التقدم التكنولوجى والعلمى والديموغرافيا المتغيرة، مما يساعد على تشكيل الديناميات الاقتصادية والاجتماعية. وبحكم كونها مراكز تقليدية للتدريس والبحث، يمكن لمؤسسات التعليم العالى أن تلعب دورًا حاسمًا فى تحسين مهارات الشباب والبالغين وإعادة تأهيلهم من أجل مواكبتهم للتطورات المعرفية والتكنولوجية الحديثة، وحصولهم على فرص عمل أفضل، وقيامهم بدور أكثر نشاطًا فى المجتمع.
ومن أجل ضمان فرص التعليم العالى الشاملة والمنصفة للأشخاص من جميع الأعمار، من المهم أن تقوم مؤسسات التعليم العالى بتوسيع نطاق الوصول وإتاحة معارفها لجميع فئات المجتمع. ومع ذلك، نظرًا لأن قطاع التعليم العالى كان تقليديًا نخبويًا إلى حد ما، ويركز على تعليم الأفواج الشابة من الطلاب، فإن هذا يتطلب عملية تحول عميقة وصعبة، وغالبًا ما تكون بطيئة. ويتضح هذا الأمر أيضًا من نتائج الدراسة، التى تظهر أنه على الرغم من وجود تقدم كبير، فإن «التعلم مدى الحياة» لم يتم تعميمها بعد بشكل كامل فى التوجهات والممارسات الاستراتيجية لقطاع التعليم العالى. وللحديث بقية.