اهتمام الشعوب بصحة رؤسائهم ليس تطفلاً، وليس تدخلاً فى حياتهم الشخصية.. وهو ليس عيبا على الإطلاق، ولكنه حق لهم، وإحساس منهم بأهمية صحته بالنسبة للدولة التى يقودها.. وعادة ما يكون الاهتمام فى الدول الديمقراطية مصحوباً بإفصاح رسمى عن الحالات الصحية للرؤساء، ويزداد الغموض كلما انخفضت نسبة الديمقراطية. والحديث الدائر حالياً عن صحة الرئيس مبارك ليس الأول من نوعه.. فعلى مدى 3 سنوات، كانت تظهر موجات من الاهتمام والجدل حول صحة الرئيس.. ولكن كثافة الجدل هذه المرة كانت أكبر مما سبق، فقد خرج من دائرة المحلية للعالمية.. والصحف المصرية تهتم حاليا، بنفس قدر اهتمام الصحف العالمية، وكلاهما ينقل عن الآخر.. وربما كانت كثافة الاهتمام هذه المرة هى ما دفعت أنس الفقى وزير الإعلام للرد للمرة الأولى منذ خضوع الرئيس لجراحة استئصال المرارة فى ألمانيا فى فبراير الماضى. وبعيدا عن خصوصيات الرئيس مبارك، فإن صحته ليست ملكا له، ولا تعنيه بمفرده.. خاصة فى هذه الحالة الخاصة التى نعيشها فى مصر حاليا.. فالرئيس مبارك– متعه الله بالصحة والعافية– يبلغ من العمر 82 عاما.. ومن الطبيعى أن يكون هناك ترقب لحالة أى مواطن عادى يصل لهذه المرحلة السنية.. فإذا كان رئيسا للجمهورية، تكون حالة الترقب أكثر لهفة. والرئيس فى مصر– بحكم النظام القائم– هو محور الارتكاز فى الحياة السياسية.. فلا مسؤول يأتمر إلا بأمره، ولا يتوجه إلا بتوجيهاته.. وهذا خطأ بلا شك، ولكنه الأمر الواقع الذى نسعى ونطالب بتغييره منذ سنوات دون جدوى.. ولو خلا منصب الرئيس لأى سبب من الأسباب فى ظل هذه الظروف، ستحدث هزة عنيفة فى مصر.. فالمستقبل فى مصر غامض.. وكل السيناريوهات المطروحة للمستقبل غير مريحة، وتخلو من أى شبهة انتقال ديمقراطى حقيقى للسلطة.. فإما أن يحدث التوريث بهدوء.. وإما أن يحدث رفض شعبى يفرز قوى لا نعرفها، وهذا احتمال ضعيف للغاية.. وإما أن تحدث فوضى، وهنا يكون اللجوء للقوة المسلحة ضرورة لفرض النظام العام، وهذا بدوره يفرض سيناريوهات أخرى لا نعلمها ولا نتوقعها. هذا الكلام ليس سراً.. ومن الغباء أن نعتبره سراً وندفن رؤوسنا فى الرمال ظناً أن الناس لا تعلمه.. فلا حديث فى مقهى أو فى أى تجمع إلا حول هذه السيناريوهات.. بل إن المصريين على اختلاف مستوياتهم الثقافية يتصورون أن المحيطين بالرئيس سوف يفرون بطائراتهم للخارج فور خلو منصب الرئيس، تاركين المستقبل الغامض لنا.. والمصريون ليسوا أغبياء للدرجة التى يظن بها مسؤول أنهم لا يفكرون ولا يهتمون بمستقبلهم.. والغباء كل الغباء أن يظن مسؤول أنه لا توجد قوى تنتظر هذا الفراغ المتوقع حتى تبدأ فى العبث والدفع فى اتجاه الفوضى. إذن.. فالحديث عن صحة الرئيس ليس مجرد كلام فى جلسات النميمة.. ولكنه إفراز طبيعى من مجتمع قوامه 80 مليون نسمة يشعر بأن مستقبله غامض وغير محدد.. ولا يوجد نظام ديمقراطى حقيقى يضمن أن الرئيس القادم سوف يتسلم الحكم بإرادة شعبية حقيقية وكاملة وحرة.. والزعم هنا بأن الدستور يحدد آلية انتقال السلطة مرفوض تماما، لأننا كلنا نعرف أنها إجراءات شكلية، ونعرف طبيعتها وأهدافها. والناس فى مصر تتلهف لسماع أى أخبار عن صحة الرئيس رغم أنهم شاهدوه بصورة شبه يومية طوال الأسبوع الماضى خلال حفلات تخرج الكليات العسكرية وخلال مقابلاته المتعددة مع شخصيات دولية كثيرة.. إلا أن الأسبوع الماضى نفسه حمل لنا تقارير صحفية داخلية وخارجية مكثفة تحمل تنبؤات وتكهنات حول صحة الرئيس.. ورغم أنها كلها لم تقدم معلومة يقينية واحدة، وكلها منسوبة لمصادر مجهولة، توصف بأنها مقربة، إلا أنها كلها تؤدى لزيادة القلق والتوتر والخوف لدى المصريين الذين لا يكفون عن التفكير فى الأمر، وتعكس أن الأمر لا يشغل بال المصريين فقط، ولكن العالم أيضا ينتظر ويهتم ويترقب. من حق المصريين أن يقلقوا ويفكروا.. ومن حق المصريين أن يسمعوا من الرئيس نفسه ما يطمئنهم على صحته حتى لو كان يعانى من نزلة برد عادية.. ومن حق المصريين أن يطمئنوا على مستقبل الحكم فى وطنهم.. ومن حق المصريين أن يكون لهم رأى فى اختيار رئيسهم القادم إن عاجلا أو آجلا.. فإذا كان بقاء الرئيس مبارك فى رئاسة مصر لثلاثة عقود متصلة استثناء لدوره فى حرب أكتوبر 1973، فمن المؤكد أن أحدا بعده لا يستحق هذا الاستثناء، ومن المؤكد أن الشعب المصرى لم يعد ليقبل بأى استثناء من هذا النوع.. ومن المؤكد أن الشعب المصرى سيتساءل عن المشروع الذى سيحمله الرئيس القادم. الرئاسة مسؤولية كبرى.. والواجب يفرض علينا أن نقلق.. والواجب أيضا تغيير الدستور ليضع آليات أكثر ديمقراطية وأكثر أمانا فى انتقال السلطة . [email protected]