دعونى أكتب الحكاية كما حدثت بالضبط. لا أدرى كيف توصل إلى رقم هاتفى، ولا كيف انتزع منى موعدا للقائه، أنا المُوغل فى العزلة، المُمعن فى التنائى. اللقاء كان فى حديقة النادى، والنهار يفيض علينا بضوئه البهيج، والزهور تضحك فى وجوهنا وكأنها تحيا فى عالم آخر، عالم مواز ليس فيه بؤسنا وانهماكنا فى الصراع. شرعت أتأمله، منهكا حزينا، كما وصف نفسه بالضبط: فى شهادة الميلاد خمسة وأربعون عاما، وفى شهادة الحزن خمسة وثمانون عاما. سواد شعره يخالطه البياض. ليس بياض الصبح، بل شحوب الهموم. النادل أحضر الشاى، بصعوبة نزعت عينى من قطة تتسكع، وبنصف أذن شرعت أستمع إليه. الحكاية مكررة ولا تثير اهتمامى. نزاع متواصل مع شركة التأمين التى كان يعمل بها. تزامن الفصل التعسفى مع إصابة وليدته بنزيف فى المخ وعجز عن النطق والتفاعل. رحلة طويلة فى المحاكم والصحافة والحياة. كل حلفائك باعوك يا ريتشارد. النقض ينتظره منذ ستة أعوام. الصحف التى عرضت مشكلته باعته بإعلانات. ناولنى أوراقا كثيرة قرأتها فى غير اهتمام. مظلوم فى بلد الظلم. مقهور فى بلد القهر. بائع العطش فى بلاد العطاشى والجوع فى حارة الفقراء. كان واضحا أنه أسير فكرة واحدة: أن يسترد حقه المسلوب. وكانت وجهة نظرى أن هذا هراء، تضييع للوقت!. من قال لك إنك زبون يجب إرضاؤه!، أو أن هناك عدلا فى بلاد الظلم؟ أو للمجلود أى حق على الجلّاد؟. كان يتكلم ولم أكن أصغى إليه. فيما بعد تأملت الموقف بهدوء فلسفى محاولا أن أفهم سبب عدم اكتراثى. كيف أهتم بمظلوم واحد فى بلاد المقهورين!. سمعنا قصص الظلم حتى صممنا، شاهدنا ضحايا الظلم حتى عمينا، تجرعنا البؤس حتى شبعنا، تكررت المآسى حتى سئمنا. يا سيدى أرجوك لا تحنق عليّ، حينما تطالبنى بكتابة قصص المظلومين فأنت تطالبنى برواية ثمانين مليون حكاية. هل تريد نصيحتى: اذهب إلى كفار قريش!. «حلف الفضول» الذى عقدوه قبل البعثة المحمدية بعد أن هالهم الظلم واستفزهم الغبن وزلزلتهم المظالم. اجتمعت كلمتهم على نصرة المظلوم ولو كان ضعيفا. فطرة إنسانية تعهدتها الأديان فأثمرت العدل والفضل والمواساة. التكرار أورثنا البلادة والتتابع علّمنا اللا مبالاة، فهل نحن أسوأ من كفار قريش؟!. الرجل أدرك أنه لا فائدة تُرجى من ورائى. حتى ذكر تفاصيل القصة لا أجرؤ عليه. ارتشف الشاى فى عجلة وانصرف. يا كفار قريش أغيثونى فالمسلمون لم يعد يهزهم الظلم. وقفت أرمقه وهو يبتعد. القطة رفعت ذيلها فى وجهى وقالت: امت رجلا ولا تعش جبانا». قلت: «ليس جبنا وإنما الواقع». قالت وهى تنشب مخالبها فى كلب يشاكسها: «واقع الجبناء». الزهور ضحكت فى وجهى وقالت فى مودة: «مرحبا بك فى عالم النبات». قلت: اإننى بشر»، قالت: «أنت فاكهة الأقوياء». [email protected]