المهرج .. من ساحات الكوميديا إلى السياسة

انتقل المهرج من ساحات الكوميديا والتسلية إلى معاقل السياسة والثأر والثورة، إذ ظهر المهرج في مرحلة مبكرة من التاريخ الإنسانى كوسيلة للترفيه في بلاط الحكام، إلا أن التيمات المتعلقة بشخصية المهرج تطورت كما تطور شكله وخصائصه التعبيرية والوظيفية على مر العصور.
المهرج في التاريخ المبكر.. خضوع في البلاط الحاكم
لا يٌعرف على وجه التحديد متى ظهر المهرج لأول مرة في التاريخ الإنسانى، إلا أنه سجل حضورًا في الحضارات القديمة، ففى مصر القديمة وقبل ما يزيد عن 5 آلاف عام استخدم المصريون القدماء الأقزام ذوى البشرة السمراء المعروفين تاريخيًا باسم «الدانجاز» لإطفاء روح المرح في القصور الحاكمة، إذ كانوا يرتدون جلود النور ويلونون وجوههم، كما ظهر المهرجون في الصين القديمة في القصر الإمبراطورى في عهد أسرة تشو في حوالى ألف عام قبل الميلاد، وكانت اليونان تعج بأنواع متعددة لمهرجين، أشهرهم السانينيو الذين كانوا يقومون بأدوار صامتة، ومن أشهر المهرجين اليونان مهرج يدعى ستيوبديتوس، وفى القرن السادس عشر وبعدما بدأ يُنظر للفن بشىء من التنظيم مع افتتاح السيرك خُصصت فقرة كاملة للمهرج.
الكوميديا الإيطالية.. تبلور شخصية المهرج
بلور المسرح الإيطالى فكرة المهرج الأحمق المضحك فيما يسمى الكوميديا المرتجلة (commedia dell'arte) التي ظهرت على خشبة المسرح الإيطالى القديم بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وكان دور المهرج قاصرًا على كوميديا تعتمد بشكل أساسى على شخصية الأحمق الذي يتعثر بسهولة ويجهل كيفية التصرف في أمور الحياة من أبسطها إلى أشدها، فهناك الأحمق أرليكينو أو الهارليكوين الذي سميت باسمه الشخصية الشهيرة في قصص باتمان وتم استلهام أسلوب ملبسها منه.
ويُمكن إرجاع الشكل الحالى لمهرج السيرك ذى الوجه المغطى باللون الأبيض والأنف الأحمر والأحذية كبيرة الحجم، بالإضافة للملابس الملونة ذات النقشات مثل الدوائر والخطوط العرضية والطولية، للقرن التاسع عشر.
شكسبير وبوادر تحول شخصية المهرج
بوادر تحول فكرة المسلى الأحمق الذي كان متواجدًا في البلاطات الملكية يؤدى حركاته الأكروباتية ويطلق النكات من أجل إضحاك الحاكم، بدأت مجازًا في مسرح ويليام شكسبير الذي استدعى شخصية مهرجى البلاط الملكى واستعرض للأحمق الذي على الأغلب ليس بأحمق على الإطلاق، أبرز شكسبير التناقض بين شكل شخصية المهرج ومضمونه، وبدا المهرج في أعماله هو العقل الوحيد وبلاهته هي عين الحكمة، فهو مجاز للصدق والمنطق في عوالم مليئة بسوء التفاهم والجنون.
المهرج في أعمال شكسبير.. الملك لير والأحمق، لوحة لويليام دايس
صانع البهجة مستنزف وحزين في الفن التشكيلى.. ظهرت تيمة المهرج بمفاهيم مغايرة في الفنون التصويرية والسينما على حد سواء وانتقل من ساحات الكوميديا إلى تيمات جديدة، فعلى صعيد اللوحات التصويرية برز في أعمال الفنان التشكيلى الإسبانى، بابلو بيكاسو، بعد جديد للمهرج المستنزف، إذ رسم مجموعة من لاعبى الأكروبات والمهرجين بعيدًا عن تأديته لعمله، فبدا المهرج في لوحاته مستنزفاً
مفرغاً من الطاقة في نهاية يومه، لكنه غير قادر على التمرد.
وخلف الشاشات.. نصف آخر للمهرج
وخلف شاشات السينما ظهر النصف الآخر للمهرج، فبدا صانع البهجة بائسًا باكيًا وحزينًا، بينما تجبره مستحضرات التجميل على الابتسام رغم انحناء شفتيه للأسفل في عبوس.
السينما.. والترسيخ لعنف المهرج
وفى القرن العشرين ترسخ مفهوم اقتران المهرج بالعنف عبر شخصية الجوكر الشهيرة التي قدمت للعالم في القصص المصورة 1940 كعدو باتمان المتطرف، الذي يرتدى ملابس ملونة كالمهرج وتغطى وجهه الألوان والابتسامة الحمراء. في السنوات الأخيرة، جذبت شخصية المهرج صناع السينما، وحصدت الأفلام التي تناولتها أعلى الأرباح خواكين فينكس بأحد شاهد فيلم الجوكر 2019. في عام 2008 أصبح المهرج مثالًا للأناركية المطلقة والشر الجذاب، عندما ظهر في فيلم فارس الظلام The Dark Knight الذي أخرجه كريستوفر نولان، وحصد من خلاله 143 جائزة وترشيحا، في الفيلم الذي يمتد ل152 دقيقة ظهر المهرج كشخصية شريرة أو «جوكر» يشيع أجواء دمار وفوضى على شعب جوثام. وهو منظور رسخه فيلم «الجوكر» المعروض عام 2019.
فانديتا ومفهوم الثورة
ومع اندلاع ثورات الربيع العربى، ذاع سيط قناع «فانديتا» واتخذه الشباب رمزًا للغضب والثأر والثورة، فقناع المهرج الذي ارتداه المتمرد جاى فوكس في العام 1605، و«فانديتا» هي كلمة مأخوذة عن مصطلح يونانى بمعنى الثأر أو الانتقام، وهو ما دفع شباب الثورات لاستخدامه تعبيرًا عن رغبتهم من القصاص من الساسة، هكذا انتقلت تيمات المهرج من ساحات الكوميديا والتسلية إلى معاقل السياسة والثأر والثورة.