■ قضيت ساعتين، يوم الخميس، فى رأس البر، كنت فى مدينة دمياط، أتابع معرض الكتاب الذى أقامته الهيئة المصرية العامة للكتاب هناك، ولم يكن ممكناً ألا أمر برأس البر.. مصيف الفقراء فى مصر. والواقع أننى ذهبت إلى رأس البر، قبل ذلك مرتين، كانت الأولى فى نهاية التسعينيات، حين كنت أعد كتابى «سيد قطب وثورة يوليو» وكان سيد قطب قد قُبِض عليه صيف سنة 1965 وهو فى إحدى عشش رأس البر، كنت أريد التوصل إلى تلك العشة، وأطالع المكان الذى جرى فيه المشهد قبل الأخير فى حياة قطب، كنت شغوفاً بأن أرى العشش، فقد تحدث طويلاً محمد التابعى فى كتابه حول «أسمهان» عن عشته وعن عشة أم كلثوم ونجوم الفن والسياسة الذين كانوا يقضون الصيف فى رأس البر، حين كانت رأس البر مصيف النخبة من أبناء مصر، فضلاً عمن يزورها من الخارج، لكن فى نهاية التسعينيات لم يكن هناك سوى أطلال بعض العشش، لونها كالح وكئيب، ولم يكن هناك ما يشجع على التصييف بها، خدمات تكاد تكون منعدمة، وعدم اهتمام على معظم المستويات، انعكس فى أكوام من الذباب تطن على أكوام من القمامة. المرة الثانية كانت من حوالى تسع سنوات وكانت ضمن زيارة نظمها اتحاد الكتاب المصريين، كانت معظم العشش قد أزيلت لتحل محلها شاليهات وفيللات، وكانت هناك بعض الخدمات المتواضعة من مطاعم وكافيتريات ومحال وكافيهات، لكن كانت منطقة اللسان بالغة السوء، تجمعت قمامة المنطقة بها، لتنطلق منها روائح عفنة عمت المكان كله، وتسربت كميات من القمامة إلى المياه، فلوثتها وجعلتها مصدر خطر على المصطافين ومن يفكرون فى النزول إلى المياه.. وكان هناك تحذير من خطر الإصابة بأمراض جلدية لمن ينزلون ويستحمون فى تلك المياه. فى الأسبوع الماضى اختلف الأمر، خاصة فى منطقة اللسان، حيث أزيلت القمامة، وتم تشجير المنطقة التى كانت بها، لتكون ساحة للمشاة وللجلوس، وهناك مركز مؤتمرات يجرى إنشاؤه وفوقه فندق، بنفس ارتفاع المبانى فى المنطقة. المبنى تقوم عليه محافظة دمياط، غرف الفندق جميعها ترى البحر المتوسط من ناحية ونهر النيل من ناحية أخرى، كان من المقرر أن يقوم مستثمر عربى بشراء قطعة الأرض والبناء عليها. عرض المستثمر مبلغ 6 ملايين جنيه، وبدأت المحافظة تطالب بأن يكون المبلغ 8 ملايين، فغضب المستثمر. محافظ دمياط الحالى د. محمد فتحى البرادعى، رفع شعار أن هذه المنطقة لا يجوز أن تباع لأجنبى أو من يرتدى العِقال.. باختصار هى أرض مصرية ويجب أن تبقى كذلك.. قد يديرها مستثمر خاص، مصرى أو أجنبى، أما الملكية فيجب أن تبقى مصرية.. هذه الأرض بما عليها تُقَيّم الآن بمليار جنيه.. تعرض المحافظ بسبب ذلك إلى هجوم، جاء بعض من أنصار بيع مصر قطعة قطعة إلى الأجانب بدعوى الاستثمار، كما هوجم من فريق يرى أن الدولة ممثلة فى المحافظة لا ينبغى لها أن تمارس البناء، وأن قيامها بذلك يُعيدنا إلى عصر الشمولية، وهذا القول يفترض أننا حققنا الديمقراطية. أياً كان الأمر، فمحافظ دمياط مقاتل سياسى، ونجح فى أن يحقق روابط مع المجتمع الأهلى أو المدنى فى دمياط.. غير منطقة اللسان فإن «رأس البر» تتغير. مبان وفيللات حديثة، كورنيش وممشى طويل ومتسع على البحر.. خدمات كثيرة من مطاعم وخلافه، دار سينما تقام أسفل مركز المؤتمرات الذى يجرى العمل فيه. هذه البقعة تختلف عن أى مكان آخر فى مصر، ولا أظن أن هناك نظيراً لها فى العالم، هى تجسد عبقرية موقع مصر، عندها يلتقى النيل بالمتوسط، الماء العذب بالماء المالح، وبالتعبير القرآنى «وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج». ويقول بعض المفسرين إن هذه البقعة هى المقصودة بالآية القرآنية الكريمة، فضلاً عن قوله تعالى فى سورة الرحمن «مرج البحرين يلتقيان». أى سفه هذا أن نفكر ببيع مثل هذه المنطقة؟! لدينا فى مصر مواقع عديدة بحاجة إلى إعادة اكتشاف، وأن تستغل بصورة أفضل، مثل منطقة مجمع الأديان التلقائى فى منطقة مصر القديمة، حيث جامع عمرو بن العاص أقدم مسجد جامع فى مصر وفى أفريقيا، وإلى جواره كنيسة أبى سِرجة حيث اختفت السيدة العذراء بابنها السيد المسيح أكثر من ستة شهور، وعلى بعد أمتار من هذه الكنيسة توجد «عين موسى» حيث عثر على سيدنا موسى وهو طفل ملقى فى النيل، ثم حصن بابليون، ومن أسف أن الرئيس السادات ذهب ليبحث عن مجمع أديان فى سيناء، بينما هذا المجمع الذى أقامه التاريخ وبنته الأحداث ليس بعيداً من مكتبه فى قصر عابدين. «رأس البر» هى واحدة من الأماكن التى لم نعرف قيمتها بعد، لقد شهدت الثقافة المصرية وكذلك السياسة صراعاً منذ القرن التاسع عشر، بين أنصار الفكرة المتوسطية، أى انتماء مصر إلى عالم البحر المتوسط، وأنصار البعد الأفريقى فى تكوين وبناء مصر والمصريين، ولم ينتبه أطراف هذا الصراع إلى أن اللسان فى رأس البر يؤكد الالتقاء والتمازج بينهما، ولعل تاريخ دمياط فى العصور الإسلامية يكون كاشفاً أكثر. كانت هذه المنطقة التى يستريح عندها النيل ويدخل بمائه إلى المتوسط، منطقة لالتقاء أوروبا بمصر، أى جنوب المتوسط وشماله، كانت دمياط ميناء تفد إليه البضائع من جنوة والبندقية وغيرهما، وجاءت إليه أيضاً الحملات الصليبية، وبرغم المقاومة والحرب فإن العلاقات التجارية لم تنقطع، حتى أثناء المعارك الطاحنة بين شمال المتوسط وجنوبه. فى مطلع القرن العشرين انتبه صفوة المجتمع إلى موقع رأس البر وجعلوه مصيفاً، كان قاسم أمين يقضى الصيف فى رأس البر، وكان يقصده نجوم الفن والسياسة والثقافة والفكر، ثم تراجعت مكانة هذا المصيف لصالح الإسكندرية ومرسى مطروح، وفى العقدين الأخيرين ظهر «الساحل الشمالى» ومعه الغردقة وشرم الشيخ، وتراجعت مكانة الإسكندرية ومن قبلها رأس البر لتصبح مصيف الفقراء، تقصده اللجان النقابية بالمؤسسات الحكومية، وصغار الموظفين ومحدودو الدخل، وهكذا.. لا بأس، بل من الواجب أن يكون للفقراء مصايفهم، فأرض مصر لا يجب أن تكون حكراً على فئة دون أخرى، ولا يجب أن يحرم الفقراء من حقوقهم، لكن رأس البر، هى المنطقة الأغنى والأهم بموقعها ومكانتها، ومن حسن الحظ أن محدثى النعمة يذهبون بعيداً عنها، فهى لا تحتملهم ولن تستوعبهم، هى منطقة فى مجتمع إقليمى وربما ريفى، به ثقافة خاصة ويحتاج من يستوعبون تلك الثقافة، ومن حسن الحظ أن هناك جهداً يبذل فيها واهتماماً بها، وإذا كان هناك فى العالم كله حديث عن سياحة ثقافية، فأتصور أن هذه البقعة جاهزة لذلك.. لديها جميع المقومات، فقط يستمر الجهد الذى يبذل ويتواصل، وهناك جهات فى الدولة يجب أن تمد يد العون والمساعدة مثل السياحة والبيئة والثقافة وغيرها. أعرف أن هناك من لا يطيق محافظ دمياط الحالى، وهناك فريق يناصب فكرة الوطنية والقومية العداء، والمحافظ مصنف ضمن هؤلاء، لكن «رأس البر» وما تمثله ليست ملكاً خاصاً للمحافظ، أياً كان، ولا يوجد مسؤول مخلد فى موقعه، وإذا كان محافظ دمياط الحالى حال دون ذهاب منطقة اللسان إلى أجنبى فأنا أحسب ذلك له لا عليه، وإن كان قد امتدت يده بالبناء، فهذا مهم، لأن كثيرين تمتد أيديهم الآن فقط إلى النهب والفساد والإفساد.. وعموماً الأفراد جميعاً يذهبون ونحن كلنا إلى زوال، لكن يبقى هذا البلد ملكاً لكل أجياله، وواجبنا الحفاظ عليه وليس تسليمه للأجانب، حتى لو كانوا سيدفعون أطناناً من الذهب. حين همت شركة دبى لتتولى أعمال وشراء ميناء نيويورك، اعترضت الولاياتالمتحدة لأسباب وطنية وتم إيقاف الصفقة ولم يتهمها أحد بالشمولية، فلماذا نضطر إلى بيع أجود أراضينا ومواقعنا - فقط - حتى لا نتصور أننا شموليون؟!!، مصر كانت قبل الشمولية وقبل الليبرالية الجديدة، ولابد أن تبقى.