كيف يمكن لعاقل أن ينكر جمال الدنيا؟ كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساء، لكن ساعات العمل جرت بسرعة جنونية! منذ أن التحقت بالعمل تغيرت حياته بالكامل! عملها فى الغرفة نفسها، وجو البهجة الذى يشيعه وجودها، وفى كل لحظة يتأمل وجهها الجميل الحساس الذى يعكس كل انفعالاتها. أما الذى كان يفتنه بحق فهى نظرتها الحالمة حين تشرد ساهمة، وقامتها النحيفة فى ثياب العمل تجعلها أقرب إلى جسد صبية يافعة! كل هذا يا ربى كان فوق احتماله! ■ ■ ■ غادرت المكتب فشيعها بنظرة حالمة! أمامه الطريق المعتاد الممتلئ بواجهات المحال المضيئة والصخب المعتاد! وهناك طريق آخر معاكس عريض هادئ لا يسلكه إلا نادرا. وكان الغروب قد لون الأفق بغشاء قرمزى! كانت تضحك لنكاته وتخصه بالمودة ولكنه لا يستطيع أن يقول إنها تميزه عن باقى زملاء العمل. وكان قد أدرك منذ اللحظة الأولى أنها هى! ولكنه خشى أن يتعجل فى مصارحتها فيفقد كل شىء. يعلم أن المرأة تحتاج إلى وقت كى تنضج مشاعرها وتدرك أنها تحب! ولذلك آثر التريث حتى يجعلها - مع الاعتياد- تحبه وتتعلق به!. كان الليل قد سقط على المدينة وهو يتمشى! وشاهد بابا مواربا لحديقة توشك أن تغلق أبوابها! دخلها ملتحفا بالظلام متمنيا أن يغفل عنه الحارس. رقد على العشب، وفاحت رائحة الخصوبة من حوله. أسلم رأسه الذى يضج بالأفكار إلى الأرض الطيبة، واستولى عليه سكون الليل! وراح يحملق فى القبة السماوية المزدانة بالنجوم الزاهرة! وفاضت نفسه بمشاعر صوفية لم يستشعرها من قبل! فى هذه اللحظة اتخذ قراره أن يصارحها. غدا سيفعل! لم يكن هناك ما يؤخر زواجهما إذا وافقت. هو من القلة المحظوظة التى لن يقف المال حائلا دون سعادته! المهم أن تحبه! آه يا ربى! كم يكون جميلا أن يستيقظ فيكون وجهها الجميل أول ما يشاهده بينما هما يحتسيان قهوة الصباح على مهل!. ■ ■ ■ فى الصباح التالى ذهب إلى العمل مسلحا بتصميمه! لكنها لم تأت! ظل يرتقبها ساعة بعد ساعة حتى يأس من قدومها. كاد يجن. كم كان يصعب عليه أن ينتظر إلى الغد! وكم صار المكان كئيبا بدونها!. فى موعد انصرافه بالضبط غادر المكان وراح يسير على غير هدى. وفجأة شاهدها تسير أمامه! كانت ترتدى فستانا ورديا منقوشا عليه زهوراً زرقاء، يبرز أنوثة قوامها الذى ظنه من قبل نحيفا صبيانيا! لم تكن وحدها وإنما تسير مع شاب رياضى القوام عريض المنكبين. وكانت يدها الصغيرة -الشبيهة بحمامة بيضاء- ترقد بسلام فى كفه الرجولية، وكأنها سلمته مصيرها. امرأة! امرأة تحب! ■ ■ ■ وقادته قدماه بلا وعى إلى الحديقة المظلمة! مرة أخرى! رائحة العشب الفواحة والقبة السماوية المظلمة والنجوم اللامعة، لكنه هذه المرة انطفأ وهجه بالكامل! بين يوم وليلة تغير كل شىء!.
