ربما ليس أنفع للإعلامى، فى ممارسته عمله، من الاهتداء بقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع»، ففى هذا القول الكريم ما يرسى القاعدة الأهم بين قواعد العمل الإعلامى على مر الأزمنة، آلا وهى قاعدة التثبت قبل نقل الخبر، بما تنطوى عليه من فرز موضوعى لما نسمعه، مهما بدا صادقاً، ومن توثق من صحته قبل أن نذيعه على الناس. فالإعلامى عادة يحصل على الأخبار، الكاذب منها والصادق، فإن لم يتثبت، وأذاع الكاذب منها من دون توثق، فقد كذب، والكذب هو الإخبار عن الشىء على غير ما هو عليه، وإن لم يكن متعمداً، والتعمد هو فقط شرط الإثم، لكن صفة الكذب ستلحق بمن نقل ما لم يتم التثبت من صحته، وهنا يكون نقل الكفر بمنزلة الكفر ذاته. وما ورد عن الرسول الكريم فى هذا الصدد ليس سوى جانب من فلسفة إسلامية متكاملة شديدة الاتساق، تضع دليلاً مرشداً للناس، أحسبه أكثر عمقاً ووفاءً من أعظم الأدلة التى ترسى قواعد العمل الإعلامى اليوم. وهو يأتى فى تفصيل وإيضاح مبدعين، بحيث يقف المرء أمامه مذهولاً، فكيف انتمينا إلى هذا الدين، ونظرنا إلى تلك النصوص، ثم لم نتعلم منها شيئاً، وإذ نحن نقع فى أخطاء مفجعة، فنلوث مهنتنا، ونهدر سمعتنا، ونلطخ أعراض الناس؟ وفى محكم التنزيل يقول المولى عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»، وهى الآية التى تحضنا على التبين من صحة ما يصلنا من أخبار، إذ إن اندفاعنا نحو تصديق كل ما يرد علينا قد يقودنا إلى ارتكاب الأخطاء التى ستوردنا موارد الندم. فإن أنت أذعت على الناس من خلال منبرك ما لم تتوثق منه وبقى محل الظن تكون من الخرَّاصين، وفى هذا قال عز وجل: «إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون»، كما قال جل وعلا: «وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغنى من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون». واتباع الظن هو اتباع الشك والعلم غير المتيقن منه، والظن هو التردد الراجح بين طرفى الاعتقاد غير الجازم، والخرص هو التكلم عن ظن كاذب وحسبان باطل وليس عن يقين صادق، والخراصون هم الكذابون المرتابون أهل الظنون الكاذبة والحسبان الباطل، الذين يتقولون الباطل ظنا بغير يقين علم ولا برهان واضح. واليوم تعمل وسائل الإعلام الأكثر تقدماً فى العالم وفق قواعد إرشادية تحكم غرف التحرير وتؤطر عملها، والقاعدة الأهم بين تلك القواعد هى تلك المتعلقة بالتثبت، والتى تسمى اختصاراً قاعدة المصدرين، أى التثبت من الخبر محل الشك من مصدرين مختلفين ليسا على صلة مباشرة. والغاية هنا هى البرهان على صدقية ودلالة ما ننقله للناس، وفى هذا تقول الآية الكريمة: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، والبرهان هو الدليل المقطوع به، فالدليل من حيث هو دليل لا يكون إلا قطعياً، ولم يستعمله القرآن إلا بمعنى القطعى. وفى الآية الكريمة: «ما لهم به من علم إلا اتباع الظن» ما يشير إلى هؤلاء الذين لا يملكون براهين ولا أدلة فيما يتصدون لمعرفته، فيركنون خاسرين إلى الظن الذى لا يجوز الاعتقاد به. والثابت أنه محرم على المسلم أن يعتقد ما كان دليله ظنياً، وفى هذا أروع ما يمكن تقديمه من نصيحة لهؤلاء الذين يسوّدون الصفحات، ويحشون الأثير بالظن والتجديف وتداول الشائعات والرمى بالباطل. وفى قوله عز وجل: «فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون»، ما يفيد أن التثبت بطلب البرهان هو خير ما نعمل لاتباع الحق والخلاص من الضلال. فماذا لو كان الإعلامى يعمل فى ظروف استثنائية، كما يحدث فى مصر الآن، وكيف له أن يهتدى بتلك المعانى النبيلة والقواميس المحيطة، فى بيئات غامضة مرتبكة، وأجواء منافسة ساخنة، أخذتنا جميعاً إلى حال انفلات إعلامى تكاد تفقدنا الثقة فى وسائل إعلامنا وإعلاميينا؟ يقول المولى عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا»، وهو الأمر الذى يوضح لنا أن التبين يجب أن يسبق أفعالنا كلها حتى لو كانت ضمن قتال محتدم. كثيرة هى مواثيق الشرف ومدونات السلوك، وقواعد العمل المؤسسية التى تسعى إلى ضبط العمل الإعلامى وتقويم مساره، وهى مدونات معظمها جدير بالتفهم والاعتبار على تفاوتها فى إدراك ما رمت إليه. أما ما ينفع الإعلاميين فى المقام الأول، ويمكث فى صحفهم وأثيرهم، فهو التعرف إلى المعانى السابقة كلها، وتفكرها وتدبرها، من حيث هى إشارات ربانية، تلهمهم وتؤطر ممارساتهم وتنبههم وتعلمهم، قبل أن تصدر المواثيق وتوضع الأدلة وتنشأ الأكاديميات.