بقلم أحمد هزيم مع هبوب رياح الصحوة العربية على أرجاء الوطن العربي، كثر الحديث عن المستقبل، حديثٌ في غالبه مفعم بالأحلام والتفاؤل والآماني، وهذا بحد ذاته مشروع ومرغوب، بل حتى ضروري. حديثٌ في مجمله يلامس الروح كغناء البلابل، وفي الوقت نفسه يستذكر في خاطر كل من يقف ليتأمل غناء البلابل وفحواه، مثلا غجريا قديما يقول "إن كنت غير قادر على التغريد مع البلابل، فلا يجب عليك أن تنعق كالبوم"، لكن دعونا نجرب سماع نعيق البوم، حتى ولو من باب التذكار بأن المثل في محله، وأن علينا أن نمد في أمد غناء البلابل. فلنجرب إذا نعيق البوم. نعيق البومة الأولى شعوب الأمة مليئة بالآحلام والآمال، وهذا حقها بعد كل ما قدمت من تضحيات، لكنها تتعاطى مع المستقبل بإصدار الأوامر له، وباستخدام تعبيرات مثل "يجب أن يحدث كذا وكذا" وإنه "من الحتمي أن كذا وكذا سيتحقق"، وهذا النوع من التعبيرات يمكن لها أن تتكرر مرارا ومرارا، دون أن يحدث شيء. فشعوب الأمة تستخدم في حديثها عن المستقبل أسلوب قصص الخيال العلمي وقصص آماني وأحلام تطوف في الفضاء وكأنها تنتظرنا هناك، بينما البناء هو عمل على أرض الواقع. وصحيح أن شعوب الأمة فتحت، بدمائها المسفوكة غدرا، بداية طريق نحو المستقبل، لكن الوصول إليه لا يتم بانتظاره، ولا بتوجيه الأوامر إليه كي يتشكل كما نريد، ويكون هناك جاهزا ينتظرنا بالأحضان. بل إن الأوامر الواجب إصدارها هي أوامر لأنفسنا في حاضرنا، كلٌ فينا إلى نفسه، لنكون نحن من يصنع المستقبل بإعادة صناعة أنفسنا، فنتغير لكي يتغير أمرنا. ونقف لنتأمل حديث من ينفي الحاجة لذلك بالقول بأن مسيرة العصر المستمرة، وترديد الغناء المتواصل، من شأنه أن يجر جميع الأطراف ورائه، خصوصا ونحن في المنطقة ممتدين على شواطئ جنوب المتوسط، على مقربة من محركات العصر هناك في الشمال، قادرين على رؤية مصانعه وسميع هديرها. ويفوت القائلين بهذا أن جذب العصر للعرب لا يكون ممكنا إلا إذا استعدّوا له، أما إذا لم يكونوا مستعدّين، فإن الجذب في الغالب سيتحول إلى سحل. والديمقراطيات الأفريقية خير مثال وأبلغ دليل. فالجذب دون استعداد، سيأخذنا بوسائل العصر دون روحه، وسيجرنا إلى ممارسات ثقافة - عربية أو غير عربية - دون استيعاب جماعي لتلك الثقافة، مما سيفرض علينا أسلوب حياة أساسه سلع وسوق، بينما ثقافة الحياة مسألة قيم وفكر. نعيق البومة الثانية شعوب الأمة، سواء بوعي أو بلا وعي، ترى أن كل مصائبها وأزماتها الاجتماعية والفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية والدينية والطائفية، والقائمة تطول، نابعة من الأنظمة التي تحكمها والتي تثور وتنتفض الشعوب عليها الآن. وهذا تهرب من المسؤولية والتاريخ وقلب لأصول الأمور وطبيعة الأشياء. فالأنظمة هي صناعتنا ولم تهبط على قصورها من السماء لتستقر فيها غصبا عنا، بل هي نتاج تفاعلاتنا الاجتماعية والاقتصادية، نتاج تركيبات ثقافية وفكرية، ولكي لا نتجنى، نصور الأمر أن تلك التفاعلات والتركيبات تمخضت فولدت هذا الوحش الذي نسميه "الأنظمة"، وهذا الوحش، سهر على الحفاظ على توازنات تلك التفاعلات والتركيبات كما هي، لأن حفاظه عليها هو حفاظٌ على بقائه. بل إنه من الصعب على أي باحث في شأن المنظومة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية في العالم العربي أن يرى حلا للأزمة العربية يولد من الواقع العربي الراهن، أو حتى متصلا به، ولولا مخافة التجني العملي والفلسفي على طبائع الأمور، لقلنا بأن بناء المستقبل المنشود، يشترط قطيعة تامة مع الحاضر. وتزداد صعوبة الأزمة عندما نكتشف أن على طول العالم العربي وعرضه،سواء في الأقطار التي تحررت من وحوشها، أم في الأقطار التي لا تزال تصارع تلك الوحوش، لا يوجد تيارٌ أو حزب أو تنظيم لديه، أو على الأقل أعلن عن برنامج عملي ومفصل وقابل للتطبيق، يكون من شأنه أن يصل بنا إلى المستقبل المنشود و يكون ذاك المستقبل ملكا للجميع دون استثناء أو تمييز. نعيق البومة الثالثة شعوب الأمة، ترى أن الحل يكمن في تطبيق الديمقراطية، وضمان الحرية، وإعادة الاعتبار لحقوق الإنسان. وهذه كلها مبادئ ضرورية ولا غنى عنها، ولكن الإلحاح عليها تحصيل حاصل. لأن السؤال الأهم هو من هو الذي سيطبق ويضمن ويعيد الإعتبار؟ وهذا السؤال يجر أسئلة، ونحن هنا لا نطرحها وكأن جوابنا عليها كلها يكون "لا"، إنما نطرحها مجردة راجين الكل منا أن يتأملها قبل أن يسارع للجواب. هل تطبيق الديمقراطية ممكن إن لم نكن نحن في داخلنا مؤمنين بقواعد اللعبة فيها؟ وقادرين على ممارستها في المؤسسة والنادي والجامعة وربما حتى الجامع، بل وحتى المنزل؟ هل نحن نستوعب أن الديمقراطية تمارس تحت سقف مفهوم المواطنة وليست هي من يحدده؟ هل نفرق بين حكم الأكثرية وبين وصاية الأغلبية على الأقليات؟ هل نعي أن برنامج الأكثرية يجب أن لا يتعارض مع مفاهيم الدولة والمواطنة؟ هل استوعبنا أن المواطنة تعني حقوقا متساوية متطابقة للجميع، وليس فيها تمييز لا بإدعاء أيدولوجي ولا سماوي؟ هل نفهم حقا معنى الحرية؟ هل نعلم أن الحرية ليست فقط حريتنا نحن في قول وفعل ما نريد، بل هي إيمانا منا بحرية الآخرين؟ حريتهم في الفكر والدين والمعتقد؟ وحريتم جميعا، وأكرر، جميعا في التعبير عن الفكر وفي الدعوة لدينهم والترويج لمعتقداتهم؟ وأن الأغلبية ليست حرة في اعتراض وقمع حرية الأقليات؟ لا شك أن الواقع العربي الذي ساد لعقود خلت يتعرض لهزة عنيفة، ولا شك أيضا أن غناء البلابل هو الأعلى صوتا، والأكثر طربا لمسامع الشعوب يملؤها بالآماني والأحلام. ولكن للبوم أيضا همومها، وهي لا تستطيع التعبير إلا بالنعيق. فهل لنا أن نتأمل قليلا بتلك الهموم، علّنا نقنع البوم بأن لا حاجة بها للنعيق، لننعم بعدها بالطرب على أنغام غناء البلابل وحدها، دون نشاز، ومن دون شريك.