الحكاية أننى ذهبت إلى مركز أشعة لعمل رنين مغناطيسى، وتطوع صديق فأوصى بى فتاة تعمل هناك فى الاستقبال لتيسير الإجراءات. وبرغم ما كنت أشعر به من ألم، لم تفتنى ملاحظة أن الفتاة مليحة حقاً، جمال طبيعى هادئ ليس مبهرجاً ولا ملوناً وإنما هو الملامح المصرية الصميمة. هذه الفتاة خريجة كلية المظاليم (التجارة سابقا) التى تؤمن لك وظيفة جيدة فى بنك إذا كنت تملك واسطة معتبرة أو تندرج فى طابور العاطلين إذا كنت من عامة الشعب. راتبها – كمثيلاتها من الجامعيات – زهيد إلى حد لا يُصدق. رحت أختلس إليها النظر. كان عملها منهكاً إلى حد الاختناق. وكانت تجيب عن الأسئلة المتلاحقة والشكوى المنهمرة من تأخيرهم بالابتسام أحيانا والعبوس أحيانا، حسب مقتضى الحال. والراتب طبعا لا يكفى الطعام. والمؤكد أنه ستحدث مصيبة لو سولت لها نفسها الأمّارة بالسوء شرب زجاجة بيبسى! هذا الراتب الهزيل لا يفسر قبولها العمل، خصوصا أنه شاق ومنهك، مثل أى عمل له اتصال بالجمهور. ما التفسير إذاً؟ الحكاية كما أخبرنى صديقى أن تلك الفتيات راغبات فى الزواج وتكوين أسرة، وجلوسهن بالبيت يعطل تلك المشاريع. كيف يراها الرجال الصالحون للزواج إذا لم تخرج للنور؟ لكن المشكلة أنه لم يعد هناك رجال صالحون للزواج، لأن الفقر طحن الجميع. والقلة المحظوظة من الرجال القادرين تنتقى وتتردد و(تتبغدد)، فالمعروض من الفتيات كثير والاختيار متاح. وهكذا يمنح أصحاب العمل أمثالها الفتات! لأنه يستغل أحلامها المؤجلة التى تداعب خيالها الأنثوى فى دفء رجل واستقرار أسرة وبهجة أطفال. نحن أمام وضع مدهش. فتاة تعمل مقابل أمل فى مستقبل غير مضمون. باختصار خبزهن الأحلام. ■ ■ ■ وشردت فى أفكارى ورحت أتصور الإغراءات التى لا بد أن تتعرض لها كل فتاة جميلة من هذا الطراز. التلميحات الخفية والعروض الصريحة من رجال مستعدين للسخاء إذا تنازلت. الملابس الجميلة التى تهفو إليها. ركوب السيارات بدلا من الميكروباص المزدحم. الجوال على أحدث طراز. المطاعم والنزهات وكلمات الإطراء. وتصورت أيضا الجوارب الممزقة والحيل التى تمارسها لتبدو فى مظهر لائق. وحيرة أمها التى لا تفهم لماذا لا يتزوج الرجال ابنتها الجميلة؟ سنوات العمر التى تتسرب. الثلاثون تقترب بكل ما تعنيه من وقع مخيف على الأنثى دون بارقة أمل فى زواج مناسب. زواج لا يعنى لمثيلاتها سوى تدبير الراتب حتى آخر الشهر والعناية بأطفال مع الفقر الطاحن، ومع ذلك تصبو إليه بفطرتها السليمة. فأى بطولة تمارسها هى -ومثيلاتها- دون أن تدرى. مجرد رفض التنازلات وهى فى هذا الوضع الهش يعنى القبض على جمر. لا يوجد تعبير آخر. ■ ■ ■ وفى النهاية، جاءتنى الفتاة لتطلب منى فى أدب الذهاب معها إلى الرنين المغناطيسى، فتبعتها وقد نسيت أوجاعى وشغلت بأمراض هذا الجسد الكبير الذى نسميه الوطن.
