عاش الأدب العربي عُرسًا أدبيًا حين فاز نجيب محفوظ أحد المبدعين الكبار في فن الرواية بجائزة نوبل عام 1988، ولقد أعاد هذا الفوز الاعتبار إلي الأدب العربي. ولعل من أهم دلالات الفوز هو كيفية اختراق العزلة التي جعلت الفكر العربي محصورًا في لغته وأهله وكيف ننفذ بفكرنا وثقافتنا وحضارتنا إلي مساحات متغايرة ومتنوعة في الفكر واللغة والأداء علي مستوي العالم. إن العقل العربي مترع بخصوصية فاعلة وبعمق أخاذ وبشمولية تترقرق كالموجة.. وبأداء موضوعي.. وهو فقط يحتاج إلي من يحسن تقديمه. والرواية عند نجيب محفوظ هي فنه الأثير الذي بدأ به واستمر معه، لكنه لم يتوقف عند هذا الفن.. فلقد قدم إلي الأدب العربي مجموعات قصصية عديدة بدأت «بهمس الجنون»، ثم «دنيا الله»، و«بيت سيئ السمعة»، و«تحت المظلة»، و«شهر العسل» و«صباح الورد» وغيرها من المجموعات القصصية التي أثرت المكتبة العربية وقدمت عطاء فنيًا بارزًا في مجال القصة القصيرة. و«دنيا الله» هي مجموعته القصصية الثانية صدرت عام 1963 وكان قد نشرها منجمة في جريدة الأهرام ما بين عام 1961 وأوائل عام 1962.. وقصص المجموعة تحمل في أدائها التعبيري والفني ملامح تجربته الفنية وتتضمن رؤاه وأنساقه وتجاربه، والقصة عنده تعبر عن موقف فكري يتنامي من خلال آليات السرد، فهو لا يحكي حكاية، ولا يثير غريزة، وإنما ينتقي الموقف الذي يمتلئ بالحدث الدرامي والموحي بتجربة الذات في مواجهة الواقع، وهو- بذلك- يواكب بوعي دءوب حركة الواقع اليومي في مفرداته المهزومة، أو المتطلعة، أو في بيئات يكتنفها الفقر المادي والروحي معًا. ومن ثم تتبدي عذابات الذات في مجال يتسم بالمعاناة. و«دنيا الله» عامرة بهذه الدلالات. قصة الجبار في قصة «الجبار» يتجلي انسحاق المواطن الفقير أمام سطوة الغني القادر. فأبوالخير.. يغلبه النعاس في دوار سيده العمدة- الجبار- ويفاجأ في إفاقة ضبابية بسيد يغتصب فتاة من القرية. كانت الفتاة (مذعورة كأن وحشًا يأكلها..) وخيل إليه في مكمنه (أن الظلام يعوي تحت وطأة ثقيلة وأن عروقه ستنفجر..) صفعه الفعل الفاضح، وغشيه ذعر من جبار يملك ويقدر. وتتشبث الفتاة ببعض قوتها وتحتمي ببقية من كرامتها، يثور الجبار وينهال عليها ضربًا. و(تواصل الأنين وأخذ في الهبوط حتي اختفي). يصرخ أبوالخير.. (اتق الله) وينطلق هاربًا. راحت عيون الجبار ترصده. وأشاع أن (أبوالخير) قتل الفتاة في مخزن الغلال ومطلوب القبض عليه. ويجأر في ذلة (جريمتي أنني رأيت جريمة الآخر).. ويقبض عليه أعوان الجبار. وباح الحوار بالألم وافتقاد العدل، وباحت المفردات بالذلة والهوان (رمق الرجل بنظرة ذليلة خرساء.. فقال الرجل: ارجع واعترف. فقال في نبرة باكية: يشنقونني. فركله الرجل بقسوة وقال: السيد لن يتركك لحبل المشنقة- يسجنونني. فركله ركلة أشد وقال: ويعيش أهلك في أمان. تأوه يائسًا ولم ينبس، فزمجرت الحناجر تتعجله فقال بصوت مهموس: سأرجع). وحين تواجد مع الحارس تساءل في كرب شديد (أين القانون؟ فضحك الحارس ضحكة جافة وقال: تجده نائمًا في بطنه بطيخة). والقصة نشرت بالأهرام في فبراير 1962.. ولعل الزمن يوقفنا علي دلالة الإسقاط الرَّمزي.. حيث كان العدل مفتقدًا، والقانون معطلاً. ولعلنا ندرك الثنائية التي ضفرها الكاتب في إتقان وهي علاقة المواطن بالحاكم في ظل شعار الفقراء هم الأصل.. ولقد باحت المفردات اللغوية المختارة بمحوري الثنائية. في الأول نجد.. الذعر، الأنين، ذليلة، باكية، يائسًا، وفي الثاني نجد.. قسوة، زمجر، لطم، صرخ.. وصاحب افتقاد العدل، تكريس الثنائية وتواصلها. حنظلة والعسكري لقد كان وعي الكاتب عاليًا بالمتغيرات الاجتماعية وما صاحبها من آلام وأحزان. في قصة (حنظل والعسكري) تحدد عبر الحلم علاقة المواطن المأزوم برجل الشرطة. وكان الحلم حيلة فنية لتعرية القيم الهابطة والمقولات الجوفاء. وفي الحلم يشعر (حنظلة) برجل الشرطة يعامله معاملة طيبة. استقبله المأمور في ود لم يلمسه يومًا فألقي بهمه قائلاً: (كنت قويًا فضعفت، وبياعًا فأفلست، وأحببت فتلوعت، وأدمنت ثم تسولت..). وحين دخل المستشفي للعلاج فاضت عيناه امتنانًا لمن قدم له المعونة وتوجه قائلاً معترفًا بالفضل (قال بدموعه المنهمرة: بفضل الله وبفضلك- لا تبالغ فالفضل لله وحده) وتقدم برغبات أبداها للمأمور.. دكان فاكهة.. وزواجه بسنية بياعة الكبدة، وابتعاد العسكر عنه. وعن علاقة المواطن بالعسكر يقول حنظلة (إن يكن لشقائي الماضي أسباب كثيرة فإن العساكر كانوا من الأسباب المهمة.. طالما طاردوا عربتي لسبب ولغير ما سبب، وصادروا رزقي وضربوني..).. ثم يورد الكاتب جملة مقصودة دلاليًا حين استمر في شكاته (وأمثالي من الفقراء كثيرون..) وهم في حاجة إلي عون. ولأنه يحلم تحدث عن مطلبه في العدالة (.. كم من المسجونين من يستحق السجن حقًا؟).. ويجيبه المأمور (سيخرج من السجن كل من لا يستحق السجن حقًا ولو فرغت كل السجون..) وبدا الأمر لحنظلة أنه في عالم مفارق لما يحياه ويعيشه. .. ولم يقو حنظلة علي ذلك كله فقال في حلمه (كأنني أحلم) وصاح (ليحي العدل..) وجاءت النتيجة بشري لتحقق الأمل (فتصاعدت آهات الطرب من صدور الفقراء والمساكين والعساكر وزغردت سنية زغرودة كأنما تصدر من ناي).. وتأكد هاجس العدل الغائب في القلوب. ثمة مواكبة للمتغير الاجتماعي الذي صاحب زمن التحول في المجتمع، فعكست المعاناة والقهر والمطاردة وغياب القانون وسيادة الخوف الذي أرجف القلوب ومن ثم تحولت الدلالة في النص إلي ثنائية حاكمة.. الواقع/القمع والحلم/ المهرب. وحين تختفي إغفاءة الحلم يصحو علي الواقع (تخايل لعينيه شبح عملاق يحجب عنه ضوء الفانوس كأنما يمتد في الفضاء حتي النجوم.. وديكة الفجر تصيح، والبندقية تطل من فوق كتف الشبح، وفوق صدره ينداح الألم في الموضع الذي تخلي عنه الحذاء الغليظ).. ثم ركله بلا رحمة. إنها نفس ركلة «الجبار» للفقير المذعور (أبوالخير).. لقد تبدد الحلم واستدار الفعل من جديد. دنيا الله وتكشف قصة «دنيا الله» عن نموذج الموظف الفقير الذي افتقد التوازن بين الفقر المادي والروحي.. وكان الحلم/الأمل في حياة مترفة.. الدافع إلي الفعل، فسرق رواتب الموظفين وهرب بها مع بائعة يانصيب إلي الإسكندرية. لقد حلم بما ظل محرومًا منه طيلة حياته.. المال، والفتاة الحسناء، لكن المفارقة أن المال ليس له، والفتاة ليست له فهي عامة لغيره من الناس.. وكان المكان الذي يحيا فيه مع زوجته عنوانًا للفقر والمعاناة (.. كان المسكن عبارة عن حجرة أرضية بحوش بيت قديم، تهدم سوره أو كاد ولم يكن بالحجرة إلا مرتبة متهرئة وحصيرة وكانون وحلة وطبق.. وامرأة عجوز عوراء...) والفتاة/الحلم.. (بائعة يانصيب في السابعة عشرة، ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين..) وكانت وسيلته إلي الانعتاق من الواقع الجهم إلي الحلم الذي داعبه. وشعر بعد هروبه بنوع من السعادة افتقدها في حياته، وراح يمارس سلوكًا لم يتعوده (.. كان يجلس جلسة مريحة علي الشاطئ، يراوح النظر بين البحر وبين «ياسمينة» التي تطايرت خصلاتها الذهبية في مهب النسائم. وبدا حليق الذقن، مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب).. وانبهر باصطحاب البحر والسماء الملفعة بالسحب البيضاء في صغاء الورد، وبدا (أنه انطلق من أغلال الهموم..). وتشير القصة إلي تحول الشخصية حين تدرك جنوح الفعل وتتجه إلي الله كملاذ ينطلق «عم إبراهيم» في مناجاة صوفية وفي استسلام قدري. توضأ وصلي وناجي ربه همسًا (لا يمكن أن يرضيك ما حصل لي، ولا ما يحصل في كل مكان.. صغيرة وجميلة وشريرة.. أيرضيك هذا؟ وأبنائي أين هم؟ أيرضيك هذا؟ العالم يطاردني لا لشيء إلا لأني أحبك.. فهل يرضيك هذا؟ وأشعر وأنا بين الملايين بالوحدة القاتلة.. أيرضيك هذا؟ (وأجهش بالبكاء). وحملت المناجاة تساؤلات وجدانية تسعي إلي الصفاء والقرب من الله، وحين سُئل عما فعل ابتسم ورفع (إصبعه إلي فوق وهو يغمغم: الله.. ندت عنه كالتنهُّدة). ثمة صحوة روحية، واقتراب من الداخل، فتخلي عن كل شيء ووهب الفتاة المال وحررها.. وأدرك إبراهيم أن النسق الكوني لا يبتعد عن النسق البشري في قدريته ونظامه. وفي المجموعة يتبدي الموت في دلالته المتعالية حقيقة لا تحتمل الشك، بل يصبح همًا فلسفيًا يقلق الكاتب من الضائقة المالية (ولم يجد الرجل ما يتسلي به سوي التفكير في الميراث المنتظر.. لعله يتمكن من شراء معطف.. ولعله يستطيع أن يرفه عن أسرته..).. وقصة (الجامع في الدرب) تقول إن الموت يليق بصاحبه الذي يستحقه. فإمام الجامع خان الأمانة في خطبه لصالح الذين يقهرون البشر. واعترض البعض ولم يعد (يجد مستمعًا) وأدرك الشيخ أن المسافة بينه وبين الناس قد اتسعت. وحين دوت القنابل إثر غارة علي المكان صاح فيمن لجأ إلي المسجد (لا تدنسوا بيوت الله) واحتدت امرأة قالت (إنه بيت الله لا بيت أبيك). ورأي أن اجتماع هؤلاء لا يبش بخير فاندفع خارجًا من الجامع وترك الذين اتخذوا الجامع ملاذًا.. ثم هدأت الغارة (ومضت الظلمة ترق أمام البكرة الوانية، ثم تبدت طلائع الصباح في مثل حلاوة النجاة.. لكن الشيخ عبدربه لم يعثر علي جثته إلا عند الشروق).