تعرف علي سعر الذهب عيار 18 في تعاملات اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025    وزير التموين : عدم المساس بسعر رغيف الخبز المدعم بعد تحريك أسعار السولار    تمهيدا لإدخالها غزة .. قافلة المساعدات ال52 تتحرك باتجاه منفذي كرم أبو سالم والعوجة    الأرصاد الجوية : طقس اليوم خريفى مائل للبرودة صباحا والعظمى بالقاهرة 30 درجة والصغرى 20    بعد انتهاء التحقيقات .. التيك توكر شاكر محظور ينتظر تحديد جلسة للمحاكمة بتهمة نشر فيديوهات خادشة وغسيل الأموال.    أسعار الفاكهة في أسواق أسوان اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025    فاضل 64 يومًا.. الشتاء يبدأ رسميًا 21 ديسمبر ويستمر 88 يومًا و23 ساعة    «الخارجية» تنظم ندوة بمناسبة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان    شرطة نيويورك: متظاهرون كثيرون يشاركون في الاحتجاجات    سعر الدولار الآن أمام الجنيه بالبنك المركزي المصري والبنوك الأخرى قبل بداية تعاملات الأحد 19 أكتوبر 2025    محافظ الجيزة يتابع التزام مواقف سيارات السرفيس والنقل بالتعريفة الجديدة    رئيس «تصديري الحاصلات الزراعية»: النباتات الطبية والعطرية أهم القطاعات التصديرية الواعدة (صور)    موعد بدء امتحانات نصف العام واختبارات شهر أكتوبر 2025    أطول تلاتة في الجونة.. احمد مجدي يمازح أحمد السعدني وخالد سليم    بافرح لما راجل يديني مصحف.. منة شلبي: «الساحر» نقطة تحول في حياتي.. ولا اعترف بلقب النجمة    دعاء الفجر| اللهم جبرًا يتعجب له أهل الأرض وأهل السماء    نقيب الصحفيين: بلاغ لوزير الداخلية ووقائع التحقيق مع الزميل محمد طاهر «انتهاك صريح لقانون النقابة»    خالد الغندور: بيراميدز زعيم القارة الأفريقية بلا منازع واستعاد هيبة دوري الأبطال    بوني يقود إنتر لانتصار ثمين على روما في كلاسيكو الكالتشيو    أحمد سعد يغادر إلى ألمانيا بطائرته الخاصة استعدادًا لحفله المنتظر    أحمد العوضي يدخل قلوب الجمهور بعد استجابته لحلم طفلة محاربة للسرطان: "أوامرك يا ليلى"    فتح فصل ثانوي مزدوج جديد لتخصص استخلاص وتصنيع الزيوت النباتية في مطروح    وفاة ضابط شرطة في حادث مأساوي على طريق الإسماعيلية الصحراوي    زيلينسكي: ترامب لم يعطني ردًا حاسمًا لصواريخ توماهوك    «العمل العربية» تشارك في الدورة ال72 للجنة الإقليمية بالصحة العالمية    موعد مباراة منتخب المغرب ضد الأرجنتين في نهائي كأس العالم للشباب والقنوات الناقلة    رئيس مصلحة الجمارك يتفقد قرية البضائع بمطار القاهرة    وزارة السياحة والآثار تنفي التقدّم ببلاغ ضد أحد الصحفيين    التعليم توضح الفئات المستفيدة من أجهزة التابلت 2025-2026.. من هم؟ (إجراءات وضوابط التسليم)    شبانة: أداء اليمين أمام مجلس الشيوخ مسئولية لخدمة الوطن والمواطن    عملوها الرجالة.. منتخب مصر تتوج بكأس العالم للكرة الطائرة جلوس    نتنياهو يعلن نيته الترشح مجددًا لرئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة    مصرع عروسين اختناقًا بالغاز داخل شقتهما ليلة الزفاف بمدينة بدر    نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية بما يشمل نزع سلاح حماس    أتلتيكو مدريد ينتصر على أوساسونا بالدوري    إصابة 10 أشخاص بينهم أطفال في هجوم كلب مسعور بقرية سيلا في الفيوم    تفاصيل محاكمة المتهمين في قضية خلية مدينة نصر    اتحاد الكرة يهنئ نادي بيراميدز بعد التتويج بكأس السوبر الإفريقي    مكافأة على سجله الأسود بخدمة الانقلاب .. قاضى الإعدامات المجرم "عصام فريد" رئيسًا ل"مجلس شيوخ العسكر" ؟!    المستشار الألماني: الاتحاد الأوروبي ليس في وضع يسمح له بالتأثير على الشرق الأوسط حتى لو أراد ذلك    الاحتلال يشن حملة مداهمات واعتقالات في الضفة الغربية    ذات يوم مع زويل    وائل جسار: فخور بوجودي في مصر الحبيبة وتحية كبيرة للجيش المصري    ياسر جلال: أقسم بالله السيسي ومعاونوه ناس بتحب البلد بجد وهذا موقف الرئيس من تقديم شخصيته في الاختيار    زيكو: بطولتي الاولى جاءت أمام فريق صعب ودائم الوصول للنهائيات    محمود سعد يكشف دعاء السيدة نفيسة لفك الكرب: جاءتني الألطاف تسعى بالفرج    أحمد ربيع: نحاول عمل كل شيء لإسعاد جماهير الزمالك    لا مزيد من الإحراج.. طرق فعالة للتخلص من رائحة القمامة في المطبخ    الطعام جزء واحد من المشكلة.. مهيجات القولون العصبي (انتبه لها)    فوائد شرب القرفة باللبن في المساء    أتلتيكو مدريد يتخطى أوساسونا في الدوري الإسباني    أخبار 24 ساعة.. زيادة مخصصات تكافل وكرامة بنسبة 22.7% لتصل إلى 54 مليار جنيه    برج الثور.. رمز القوة والثبات بين الإصرار والعناد    هل يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؟.. أمين الفتوى يوضح    توجيهات عاجلة من وكيل صحة الدقهلية لرفع كفاءة مستشفى جمصة المركزي    "الإفتاء" توضح حكم الاحتفال بآل البيت    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    أعضاء مجلس الشيوخ يؤدون اليمين الدستورية.. اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القاهرة تقتل؟


أخبار متعلقة
* المياه الجوفية تغرق شوارع ومنازل إسنا بعد إنشاء القناطر.. ومخاوف من انهيار الآثار والمساجد التاريخية
* التنسيق الحضاري يتفقد شوارع القاهرة الخديوية
تتبع هذه المقالة المصورة شارع بورسعيد من فم الخليج إلى الظاهر وهي تحاول عمدا اعادة انتاح إحساس المشي في المدينة. التمشية في القاهرة هي نوع من ممارسة للمدينة وهي ممارسة يفعلها أهل المدينة بالضرورة في حياتهم اليومية وهي نوع من التفكير البصري المتاح لكل من يمشي بطرقه الخاصة. التفكير وأنت تتمشي له خفة وهو يرتبط بما تراه وبما تستدعيه الصدف الكثيرة والصدمات على الطريق من ناحية وبالتعود وتكرار رتم الحياة من ناحية أخرى. التمشية هي نوع من التفكير المرن الذي يفهم المدينة ويشكلها بطرق مختلفة عما يتم التخطيط له من قبل المهندسين والعمرانيين. وهي أيضا نوع من تقفي الآثار. كل من عاش في المدينة سواء ذكره التاريخ أم لا، والتاريخ لا يذكر إلا قلائل، ترك آثار في المدينة عن طريق السكن والمشي والشغل والأكل والفسحة، كلها ممارسات تخلق المدينة وتخلق أنماط التعايش فيها. كنا نتمشي وكأننا محققين جنائيين، شيرلوك هولمز يبحث لا عن الجاني بل عن حياة شارع بعينه، شارع بورسعيد. لا نستنبط أهمية ما نراه في الشارع من جماله أو قبحه، بالفهم التقليدي للكلمة، ولا من مجرد فهم معلومات تاريخية عن الشارع وتطوره. ما نحاول رصده عن طريق المشي في الشارع هو تشابك ترسبات التاريخ مع صراعات الحاضر وتصورات المستقبل. ماضي الشارع كقناة، مد خطوط الترام وما ترتب عنه من تغير أنماط العمل والعلاقات الشخصية، قاهرة الخمسينات والستينات وصعود أو هبوط طبقات اجتماعية، اقتحام قسم السيدة زينب في الثورة وما تعنيه يناير 2011 من لحظة طرح ثوري لم يتحقق، كل هذه الاستدعاءات تتركز في بضعة لحظات ويربطها المشي في الشارع، كخيط يعيد تركيب الزمن، فالمدينة تحتوي مجموعة تفاصيل تستدعي المدينة كلها بتاريخها وصراعاتها الإجتماعية والسياسية بالكامل.
صورة 1
ترجع تسمية شارع بورسعيد إلى سنة 1957 عقب العدوان الثلاثي، وقد كان إسمه شارع الخليج المصري فيما قبل. كما يعرف الكثير من أهالي المناطق العديدة الذي يمر فيها الشارع، ترجع تسمية الخليج المصري إلى أن الشارع كان بالفعل خليجا، أو بالأصح كان ترعة أو قناة مائية ضيقة مرتبطة بالنيل، يبدأ من منطقة فم الخليج عند بداية سور مجري العيون ويتجه ناحية الشمال الشرقي لينحني بإتجاه جامع السيدة زينت فيمر من أمامه مباشرة لينحني مرة أخرى بإتجاه الشمال مارا بالحلمية ثم درب الجماميز ثم ميدان باب الخلق ثم الموسكي ثم ميدان باب الشعرية ثم الظاهر بالقرب من جامع الظاهر بيبرس ثم غمرة ليكمل طريقة فيما كان في الماضي أراضي زراعية إبتلعتها المدينة لتصبح الزاوية الحمرا والوايلي والأميرية والخصوص. وقد تم ردم الترعة في عام 1898 من قبل شركة ترامواي القاهرة بالاتفاق مع الحكومة في مقابل إنشاء شارع يسير فيه خط الترام.
صورة 2
شريط المترو يخترق سور مجرى العيون
صورة 3
أرادت الثورة الفرنسية ليس فقط تغيير أسماء الشوارع بل إنها ابتكرت تقويم جديد، نفس التقويم الذي استخدمته كوميونة باريس قبل إنهزامها، فالثورة يجب أن تخلق مساحة وزمنية جديدة. تتغير أسامي الشوارع الرئيسية في القاهرة بسرعة تغير المزاجات السياسية والأنظمة والميول الأيدولوجية للسلطة: من سيلمان باشا لطلعت حرب، من الخليج المصري لشارع بورسعيد وهكذا. أما الشوارع الفرعية فكثيرا ما يتراجع ويترسب التاريخ فيها من صراع الحاضر على الشوارع الرئيسية. شوارع وحارات مثل السكر والليمون، حارة الحبانية، حارة السقايين، درب البزازرة، سوق الزلط هي شواهد على حيوات المصريين السابقة، على أفول أنمطة اقتصادية وممارسات يومية واحتفالات لم نعد نحتفل بها. كانت احتفالية «جبر الخليج» أو قطعه تتم في أواخر صيف كل عام حول هذه المنطقة حيث يسمح لمياه النيل الآخذة في الارتفاع بالدخول للقناة ولكن تبقي القناة في حالة راكدة معظم السنة.
صورة 4
الخاص يتحول أحيانا لمتحف حي للمارين في الشارع. أنت الآن تنظر إلى حمام أحدهم في الدور الثاني. في باب الشعرية أشار أحد ساكني الحي إلى مربع أزرق على الجزء المتبقي من سور القاهرة القديم بعد أن شرح لنا أن الحكومة كانت قد أزالت ما بني عليه في منتصف العقد الماضي وقال «دي كانت أوضتي».
صورة 5
هرب الشارع في هذه البقعة من صخب وضجيج القاهرة، فهو مسار غير مأهول إلا من «مدافن الأقباط الكاثوليك» على اليمين.
صورة 6
مفترق طرق في ميدان أبوالريش
صورة 7
يفترق الطريق عند ميدان أبوالريش إلى شارعي السد البراني جهة اليمين وشارع الخليج المصري (بورسعيد) جهة اليسار. بينما يموج الأول بصخب البيع والشراء وازدحام المرور والضوضاء، يعم هذا الجزء من شارع بورسعيد حالة من السكينة والهدوء النسبي والظل لم يقطعها أثناء سيرنا إلا مجمع سكني compound صغير لفتت انتباهنا أبنيته المشيدة على الطراز الإنجليزي والتي لا تتعدى الثلاث طوابق واستخدم في بنائها الأحجار السميكة التي تعزل الحرارة. اكتشفنا أنه ملك لهيئة السكك الحديدية ويعود تاريخه لأربعينيات القرن العشرين وكان مخصصاً كإستراحة لعمال ومهندسي وموظفي الترام والمترو القديم.
كانت السيدة زينب من أوائل المناطق التي تم ربطها بشبكة الترام بعد ردم الخليج المصري. وكان فناء هذه الاستراحة نقطة عبور تصل خط الترام المار في شارع بورسعيد بخط المترو القديم (مترو حلوان) في شارع منصور، والذي تم استبداله في الثمانينات بشبكة مترو الأنفاق.
مر الآلاف من هذا البرزخ في طريقهم بين شمال القاهرة وجنوبها، واصطف مئات غيرهم في شارع بورسعيد في أواخر القرن التاسع عشر يشاهدون بدهشة تشغيل عربات الترام الكهربائية، والتي كان الأطفال يركضون خلفها صائحين «العفريت ... العفريت !!»
صورة 8
يضيق الشارع وينحني بحدة إلى اليمين متبعا خط سير القناة القديمة، ليصل بنا إلى مفترق آخر بالقرب من دار الهلال. تطل علينا عند هذا المفترق عمارة ضخمة تأخذ واجهتها شكل نصف قوس بيضاوي، وتذكرنا بنمط معماري اشتهر في مصر في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين يتميز بالواجهات المستديرة وانسيابية الأسطح ومن أبرز شواهده عمارة «وقف رأفت» قرب تقاطع شارعي بورسعيد وشارع قدري والتي صممها واحد من كبار المهندسين المعماريين المصريين وهو على لبيب جبر (أحد مصممي مباني شركة الغزل والنسيج بالمحلة ومصانع الحرير بكفر الدوار)، وكذلك مبنى سينما ولوكاندة الشرق التي لم نستطع الاستدلال على صاحب تصميماتها.
على خلاف العمران الخديوي في وسط البلد (طراز الآرت نوفو)، تعبر هذه البنايات الضخمة في شارع بورسعيد عن روح أخرى وعصر آخر. فالأسطح الملساء والخطوط الأفقية الممتدة والأطراف المنحنية (خاصة الهيكل الإسطواني الذي يظهر في البرج العلوي لسينما الشرق) تستمد فلسفتها من أسلوب ال Streamline Moderne الذي انتشر في أوروبا في منذ الثلاثينات والأربعينات والذي سعى لنزع الزخارف من واجهات المباني، والميل بدلاً منها للتعبير عن التدفق والسيولة والسرعة التي واكبت التصنيع الثقيل.
صورة 9
دفعنا المرور بسينما الشرق لتخيل صورة طالب يقف متأملاً أفيش أحد الأفلام القديمة بعد أن قام ب«التزويغ» من المدرسة. ارتبطت سينما الشرق بأسطورة فريد شوقي «ملك الترسو» منذ النصف الثاني من الخمسينات في القرن العشرين، والتي تغيرت معها صورة النجم من الفرد البرجوازي الأنيق والمنمق إلى صورة أكثر شعبية تفرد مساحة لبطولة وشهامة ابن الحي الشعبي، للأسطى حسن، هريدي في الفتوة، أبوسريع في باب الحديد، الشاويش خميس في رصيف نمرة خمسة. يروى أن «وحش الشاشة» كان يتابع عن كثب شباك تذاكر واستجابات الجمهور في صالة سينما الشرق التي تتسع لمئات المشاهدين وكانت لفترة طويلة بمثابة المعادل الشعبي لسينمات مترو وميامي وراديو في وسط البلد.
الشرق كغيرها من صالات العرض الشعبية كانت علامات على التحول ل«عصر الجماهير الغفيرة» حيث تحولت السينما إلى وسيط فني شعبي واسع الانتشار ثم إلى أداة أيديولوجية في العالم الثالث. وعلى الرغم من تجديدها وتطويرها في منتصف التسعينات، لم تصمد الشرق- كغيرها من صالات العرض الكبرى التي تم غلقها أو تقسيمها- أمام التحولات النيوليبرالية في مصر.
تراجعت مكانتها ودورها أمام تغيرات كثيرة من أهمها ظهور المولات وصالات العرض الصغيرة، وانكماش مساحات الفسحة واللهو في المجال العام، وكذلك سيطرة الاحتكارات على صناعة السينما. كل ذلك استصحب معه تغيرات أوسع في مزاج جمهور الترسو وجمهور الطبقة الوسطى التاريخية وفي صورة الفرد عن نفسه. أبواب السينما المغلقة كانت كافية لفهم مآل هذا النمط من المشاهد الذي يشارك مئات وآلاف آخرين الفرجة على فيلم أو بروجرام أفلام.
صورة 10
رحلة الخليج المصري هي رحلة في الديموغرافيا والجغرافيا. تاريخيا وبدرجة من التعميم (أي مع اعتبار بعض الاستثناءات مثل بولاق ومصر القديمة)، تمركز أغلب سكان القاهرة شرق قناة الخليج، أي في المنطقة ذات المنسوب الأرضي المرتفع نسبيا بين القناة وهضبة المقطم، أو صحراء العباسية ذات المناسيب الأكثر إرتفاعا. أما الأراضي الواقعة غرب قناة الخليج، أي بينه وبين النيل وترعة الإسماعيلية في الشمال (شارع رمسيس حاليا)، فهي أراضي ذات منسوب منخفض، ولذلك كانت عرضة لفيضان النيل وإرتفاع منسوب المياه الجوفية المصاحبة له. فكانت تغطي معظمها الحدائق والبرك (مثل بركة الأزبكية وبركة باب اللوق) والقصور مثل قصر ابراهيم باشا. كان الخليج يمر من أمام ميدان السيدة زينب مباشرة ثم ينحني مرة أخرى بناحية الشمال. يوجد سبيل السلطان مصطفي على الناحية الأخري من الشارع/القناة فقد كانت القناة مصدرا هاما لمياه الشرب في المدينة.
صورة 11
مثلما يوجز الشارع قصصاً عن الماضي وعن الصراعات التي خلقت مع الحداثة، ومثلما يتعرج مساره يمينا ويساراً متداخلاً مع الطبيعة، تأخذ سيرة الشارع منحىً دراماتيكياً عند المرور من أمام قسم شرطة السيدة زينب خاصة وأن صورته الحالية تبدلت تماماً عما كانت عليه إبان الثورة. بينما تشير الأبراج والتحصينات التي استحدثها النظام إلى مستقبل سلطوي كئيب – قيد الإنشاء كما تشير الأشرطة الصفراء التي تطوق محيط القسم-، تستدعي في الوقت ذاته صور أخرى لانتفاضات شعبية ووطنية خلفت رماداً مضوياً من مباني السلطة الاستعمارية والاستبدادية المحترقة في 1919 و1952 و1977 و1986 وبالطبع في 28 يناير 2011. لم يختلف مصير قسم السيدة زينب الذي تعددت شواهد وشهادات التعذيب في سلخانته عن ما يربو عن ال 90 قسم آخرين احترقوا في جمعة الغضب بطول مصر وعرضها. إلا إنه استأثر ضمن قلة من الأقسام بتحوله إلى خرابة وملقى للقمامة لما يزهو عن السنة. كانت الخرابة بالتعبير الشعبي «فردة»- بكسر الراء- على منطق السلطة القديم، وظل واجهة القسم المحترقة شاهد وذكرى حية لثورة في مأزق.
صورة 12
استدعت صورة القسم العديد من التأملات حول الثامن والعشرين من يناير (جمة الغضب)، اليوم الذي يفلت من إسار الزمنية الحديثة للتاريخ في مصر. مثّل هذا الحدث الجلل تحدياً للتصورات الإصلاحية قبل الثورة وبعدها، بشكل خاص رفضاً لفكرة الإصلاح والتراكم التدريجي وإمكانيات الهندسة الإجتماعية التي قد تخفف وتعطل الانفجار الاجتماعي أو تأجله على أقل تقدير. البطولات الجماعية والخروج الكبير والرهان على المستقبل وبالطبع هزيمة الشرطة وانسحابها المهين، جعلت هذا اليوم يستعصي على الحكي ويقاوم محاولات تسكينه في سردية خطية ومنطقية. وليس غريباً إن تراه الثورة المضادة مؤامرة على الدولة، كيف يفهم من غشت أبصارهم حركة التاريخ وسيرته!!
صورة 13
تتناثر صور الشهداء بطول الشارع، على عمدان الإضاء والجدران وواجهات المقاهي، وكأن نظراتهم المتطلعة وابتساماتهم البسيطة هي أجمل وأنبل شهود لثورة تائهة ومجهضة نصادف شظاياها في سيرنا. ثمة حكاية تتواتر في الروايات الشعبية عن الشهداء في جمعة الغضب، وهي أنهم زُفّوا إلى السماء قبل أيام أو فترات وجيزة من زواجهم. ومنهم الشهيد إبراهيم صالح الذي اغتاله رصاص القناصة أمام قسم الدرب الأحمر في أثناء عودته من عمله في ورشة الحدادة.
يستمر تذكرنا للثورة لا عن طريق نصب تذكاري أو حكم قضائي أو عطلة رسمية، ولكن عن طريق صور وآثار مبعثرة لمئات من الغرباء.
صورة 14
تخيل كيف كان المشي في الشارع مباشرة بعد أن تحول الخليج إلى شارع، شارع لم يمشي عليه أحد من قبل؟ ردم القناة وردم بركة الفيل التي كان من الممكن رؤيتها في نفس الصورة من أكثر من مائة عام هو ردم لنمط حياة بالكامل فهو يخلق تجارب وممارسات حياتية كما ينهي أخرى. ربما لم يكن ممكنا في الماضي رؤية مأذنة جامع بن طولون من شارع محمد قدري باشا المتفرع من شارع الخليج.
صورة 15
مفاجأة تظهر بين عمارتين
صورة 16
«الترام لما كان بيعدي من هنا، كان بيحك في حيطان السبيل»
تظل التكايا وسبل المياه القديمة على شارع بورسعيد كشهود من الماضي على الحياة اليومية لمن سبقونا. فنري في الصورة حنفيات سبيل بشير أغا. كانت القناة هي إحدي المصادر الرئيسية لمياه الشرب فحينما تكون المياه جارية يملأ خزاناته من يمتلك ويأخذ السقايين المياه من نقاط مختلفة على طول الخليج أيضا. وكان إنشاء شركة مياه القاهرة صاحبة الإمتياز عام 1865 برأس مال أجنبي نقطة فاصلة في توزيع مياه الشرب في المدينة، فمن ناحية كانت مياه الشركة المفلترة تباع بأثمان باهظة لا يقدر عليها سوي شريحة ثرية جدا. عندما غيرت الشركة نظامها في العقود الأولي من القرن العشرين بالاستعانة بعدادات، حولها سيد درويش إلى موضوع للتهكم حين قال “عايشين في وادى النيل نشرب من عدادات على مللى وسنتى”. من ناحية أخرى كان إنشاء الشركة بداية تضييق على مهنة السقايين بل وبداية إندثارها، فعبر أيضا سيد دوريش بحسه الشعبي عن هذا في أغنية السقايين قائلا على لسانهم «دي شركة غلسة ميتها نجسة تلقاها حدقة وخضرة وزرقة” مشيرا إلى عدم استحسان المصريين لطعم مياه الشركة في بعض الأحيان مفضلين مياه السقا. وتقع حارة السقايين في الناصرية بمكان ليس ببعيد عن شارع بورسعيد.
صورة 17
من المفارقات أن الخليج لم يكن فقط مصدرا لمياه الشرب، بل كان أيضا مصرف عمومي تصب فيه طرنشات ومواسير الصرف الصحي لبعض البيوت والجوامع القريبة ومقلبا للقمامة ومكانا لقضاء الحاجة لكثير من فقراء المدينة. وبالتأكيد فقد تسببت هذه الطبيعة المزدوجة للخليج لأن تكون المناطق المطلة عليه مثل السيدة زينب من أكثر الأماكن التي سقط فيها ضحايا أوبئة الكوليرا المتكررة والمثيرة للزعر طوال القرن التاسع عشر. وقد كانت تسمي «الهواء الأصفر» إعتقادا بأنه مرض مصاحب لتغيرات جوية قاتمة. وكانت علاقة الخليج وروائحه الكريهة بالأمراض الوبائة مصدر دائما لقلق السلطة، فكان قرار ردمه في سنة 1897 مرتبطا ارتباطا وثيقا بقلق مسؤولي الصحة من علاقتة بالأوبئة. من ناحية أخرى كان قرار ردمه متعلقا بدخول رأس المال الأجنبي في مصر بكثافة وبطفرة السوق العقارية التي شهدتها القاهرة في نفس الفترة وبالفعل فقد ارتفعت بسرعة أسعار العقارات المطلة على شارع الخليج بعد ردم القناة. وتشير الكثير من الشواهد إلى أن القاهريين لم يفتقدوا القناة كثيرا.
صورة 18
لم يصمد الطراز المعماري الحداثي (الذي تلمسنا أثره قرب دار الهلال وفي سينما ولوكاندة الشرق وعمارة وقف خيري) أمام الزمن، وأفسح المجال لفلسفات عمرانية أخرى. فمع النصف الثاني من الخمسينات ستختفي تدريجياً الانحناءات والأقواس والواجهات الملساء والشرفات الدائرية لتخلي الطريق لمنطق معماري أكثر جدية يعتمد على الأطراف الحادة والخطوط المستقيمة وتظهر فيه الخرسانة بشكل واضح. جسدت عمارة السودان هذه التحولات، فقد أنشأت في عام 1957 وقام بتنفيذها المقاول اليوناني كومنينوس وتصميمها اثنان من أهم مهندسي العمارة في مصر آنذاك وهما مصطفى شوقي وصلاح زيتون (مصممي مطار القاهرة القديم). تتلمذ شوقي وزيتون على يد المعماري الأمريكي الشهير فرانك لويد رايت الذي زار القاهرة في نفس العام وأبدى اعتراضه على عمران وسط البلد ولفت نظر تلامذته لضرورة استلهام عناصر من البيئة المحيطة والجمع بين التراث والحداثة لصنع مستقبل مختلف للمدينة. انعكست بعض أساليب ورؤى رايت (تحديداً العمارة العضوية والوظيفية) في واجهة العمارة، فالنوافذ والشرفات الخشبية تمثل تصور حديث وعملي للمشربية القديمة. كان بناء العمارة حدثاً كما قال أحد سكانها، فقد بنيت بنظام «الخوازيق» المستجد وقتها، حيث حفرت الأساسات بعمق 15 متر في باطن الأرض حتى ترتفع العمارة بهذا الشكل. كانت «عمارة متكلفة» كما قال، وكان سكان السيدة والحلمية يستيقظون على صوت دق الخوازيق في الأرض.
صورة 19
أنت الآن على مفترق كوبري بورسعيد مارا أسفل كوبري الأزهر بمنطقة الموسكي بعد أن تخطيت ميدان باب الخلق ومديرية أمن القاهرة ومتحف الفن الإسلامي. شارع الأزهر (أو شارع السكة الجديدة سابقاً) لديه قصة أخرى عن علاقة العمران بالأمراض برأس المال بحكم المدينة. خلفك في مكان غير محدد بالضبط ما كان في الماضي فندق النيل حيث سكن جوستاف فلوبير صاحب رواية مدام بوفاري عندما جاء إلى مصر في أواخر عام 1849 وتحتك ومن حولك وفي كل مكان صدمة أخرى جديدة.
صورة 20
ارتبطت تجربة الحداثة في المدن الأوروبية والأمريكية الكبيرة بضبط وتنظيم حركة الأجساد وتعقيم الحواس في المجال العام بفعل البوليس وماكينة التسليع الضخم. ولكن للقاهرة قصة أخرى، فلا تزال التجربة الحسية محتفظة بالكثير من دهشتها وفوضويتها.
الاقتراب من الموسكي يباغتك بأصوات كثيرة متداخلة وكلاكسات وروائح عوادم وذرة مشوية وجوزهند وبطاطا وكسكسي ومحلات الجبنة وألوان البضائع الكثيرة في الشارع يقابلك بها تقاطع الموسكي مع كوبري بورسعيد. لا يمكن الهروب من فكرة إنك إخترقت حاجز داخلي في المدينة، حاجز تسمعه وتشمه وتراه، فهو هجوم حسي شامل مرتبط بنقلة في طبيعة الشارع الاقتصادية. أنت الآن في منطقة أسواق جملة ومحال الموسكي العديدة ذات التخصص في نوع البضاعة المعروضة. ما هي المدينة، أي مدينة، غير إنها تكثيف لنشاط ذهني ما ناتج عن تحول سريع ومستمر بين محفزات داخلية وخارجية ناتجة عن تعايش البشر في المعمار؟
صورة 21
الأفق الآن ممهد لنقلة أخرى لتخيل تواريخ للحياة اليومية في القاهرة مختلفة عن التاريخ المدرسي أو المتحفي، بداية من تخيل رائحة المكان في نهايات القرن التاسع عشر مع مد شبكة حديثة للمجاري واستبدال الطرنشات، وتخيل كيفية وصول أصوات مساجد السيدة زينب والإمام الشعراني لفضاءات الأحياء المحيطة بها حين كان الآذان بمثابة الساعة والساقية التي تدير إدراك سكان الحي للزمن كما صورها يحيى حقي في قنديل أم هاشم.
نتخيل كذلك البيانات والخطب التي كانت تلقى من ميكروفونات معلقة على عمدان النور، والصوت المدوي الذي أحدثته تكنولوجيا الحفر والبناء، ومشاوير شراء لوازم السبوع والزواج والنجف وورق الحائط والملابس. كل هذه التراكمات تستدرجنا لاستكمال الرحلة.
صورة 22
من أهم معالم منطقة الموسكي: حارات اليهود والمعابد المغلقة مثل معبدموسي بن ميمون، مجموعة من كنائس الأقباط والأرمن والمارونية والسريان ودير الفرنسيسكان الذي يظهر في الصورة.
صورة 23
يمثل ميدان باب الشعرية نقلة أخرى في شارع بورسعيد، حاجز آخر داخلي في المدينة نخترقه نحو معمار ومساحة أكثر وحشة. رغم وجود مقام سيدي الشعراني، يسكن الميدان وما حوله إحساس غريب بالهجر أو بإنه مكان قد تم نسيانه بشكل من الأشكال. يتوسط الميدان تمثال غريب للموسيقار محمد عبدالوهاب ساهم في نصبه أيمن نور نائب الدائرة والمعارض الشهير في التسعينات. بسط نور شعبيته في تلك الفترة من خلال المركز الثقافي الذي قدم العديد من الخدمات مثل حضانة للأطفال ومركز لتعليم اللغات والكومبيوتر ومجموعات التقوية، ولا زالت حطامه وبقاياه موجودة ومحاطة بالأسوار في الميدان.
صورة 24 و25
سور القاهرة القديم من الناحية الشرقية وقد تم هدم أجزاء منه عند ردم القناة والتوسيعات المتكررة لشارع الخليج. أما ما تبقي منه في هذه الناحية فهو ما ابتلعته المباني المحيطة. على اليسار بداية شارع وحارة درب البزازرة.
صورة 26 و27
مرت القاهرة بتغيرات اقتصادية عنيفة في القرنين الأخيرين غيرت من أنماط تراكم واستغلال رأس المال ومن طبيعة البضائع والأسواق. كانت باب الشعرية مركزا لأسواق كثيرة إندثرت الآن مثل سوق الجراية ولكن المنطقة ما تزال مركز لنقل البضائع، سواءا كانت الموبيليا والأثاث المنزلي أو القطن أو الخضروات. كان ولايزال إنشاء الشوارع من أهم طرق فتح سكك جديدة لتدوير رأس المال واستثماره.
صورة 28
أحد محلات القطن بالشارع. حكي لنا صاحب المحل عن الأسواق في المكان. كيف يتعامل ساكني الشارع مع تراكمات وتداخل الماضي والحاضر؟ هناك نوع من المعرفة يختلط فيها الواقع بالأسطورة والتاريخ الاجتماعي الشفاهي الذي تتناقله الأجيال عن المنطقة بالتاريخ العام والأحداث السياسية الكبري.
صورة 29
بمكان قريب من السور، كانت هناك واحدة من آخر بوظات تبقت في القاهرة. ولكن بوظة بلبل أغلقت أبوابها هي الأخري منذ حوالي أربع سنين. المكان الذي كان يقدم البوظة (وهو مشروب كحولي من الشعير) معروف بين أهالي باب الشعرية، فهو مشروب شعبي يقدم بثمن رخيص. لماذا أغلقت البوظة؟ بالتأكيد لم تعد البوظة هي مصدر المزاج الأساسي للطبقات الإجتماعية الأفقر في المدينة. يقول بعض المقيمين بالشارع أنه بعد أن كون بعض المال انتقل بلبل صاحب البوظة ذو الأصول السودانية إلى شارع عبدالعزيز واشتري ثلاثة عشر محل لبيع الأدوات الكهربائية. قال لنا أحدهم مازحا «أو إسأل عليه ف درب المهابيل” وهو شارع آخر قريب من العتبة كان في السابق معروف بمحل بوظة.
صورة 30
هل الماضي فعلاً بلداً أجنبيه كما يقال؟ الحطام الباقي من السور لا يكفي للاستدلال على تاريخه، ويقول بعض الماره أنه مجرد ركام لبيوت قديمة هدمتها المحافظة في منتصف العقد الماضي.
حاولنا اختبار معرفتنا بمراحل تاريخية سابقة على تخصصاتنا، فقد يكون حطام لباب الشعرية الذي كان يمثل حدود القاهرة القديمة، وربما بقايا السور الذي شيده قراقوش وزير صلاح الدين الأيوبي وكان الخليج يمر من أسفله.
صورة 31
«الحضارة ليها ضحايا» ... هكذا علق أحد أصحاب الورش على تحولات الشارع. منذ أن لمحنا أطلال احد المباني القديمة في منطقة السكر واللمون، وفكرة الأطلال بوصفها مجازاً مكانياً وزمنياً تطارد مخيلتنا في تصور ومحاولة مختلفة لكتابة تاريخ شارع بورسعيد. تأتي الأطلال باعتبارها ركاماً لتناقضات الحداثة المادية والفكرية الزمنية.
صورة 32
أحد اللوحات القديمة للشارع ظلت تقاوم التغيير لأكثر من نصف قرن.
صورة 33
القاهرة تقتل؟ ربما أحيانا.
بمجرد اجتياز ميدان باب الشعرية تزداد وحشة وغرابة الشارع سواء في أنماط المعمار وألوانه أو في حركته وزخمه. ويبرز معمار السبعينات والثمانينات بملامحه الأسمنتيه، فيقف كشاهد على لاعقلانية القاهرة في طورها النيوليبرالي.
صورة 34
وافقت أحدى جولات التمشية في الشارع موجة عنيفة من البرد والتراب معاً ضربت القاهرة في يناير وطوحت معها مظاهر الحياة في حالة تذكرنا بتمثال الخماسين لمحمود مختار. يرتبط تاريخ الفضاء المديني في القاهرة بعلاقة وطيدة بالتراب وطبقات الغبار المتراكمة على واجهات المباني وعلى الأرصفة، كأن المدينة ماكينة لصناعة الغبار وغمر الحاضر به. يقفز في أذهاننا سؤال: هل يمكن تصور مستقبل للقاهرة بدون تراب؟ هل التقدم والنهوض مرتبط بالضرورة بالتخلص من التراب؟؟ هل ستهون تلك العشرة الطويلة بين الطبقة الوسطى والغبار؟
صورة 35
هناك العديد من المستشفيات بالشارع ولكن لواجهة مستشفى باب الشعرية خصوصية. كأنها تفصح بأننا نذهب هناك لنموت.
صورة 36
إحدي النهايات المنطقية للشارع: تقاطع شارع بورسعيد وليد الحكم الإنجليزي للقاهرة بكوبري 6 أكتوبر وليد نظام البنية التحتية المباركي.
صورة 37
يتميزجامع الضاهر بصحن واسع، هو الآن مساحة كبيرة فارغة وسط المدينة التي تذكرك بها العمارات الطويلة المحيطة. المكان هاديء، تعيش فيه الطيور وبعض الكلاب. الجمال الحزين لحطام المسجد يستدعي حالة من حالات أفلام المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي وكأنك تركت القاهرة للحظة ودخلت في عالم خيالي يعيش وسط القاهرة. الجامع بتفاصيله يبدو كشظية من الخيال أو كحلم يعيش وسط ما نطلق عليه الواقع واليومي. ربما يعطي نوع من الأمل أن الواقع ليس هو كل شيء وأنه دائما محاط بأحلام من سبقونا وبأحلامنا نحن عن المستقبل.
خاتمة:
يثير جامع الضاهر الكثير من التأملات ليس فقط حول تاريخ وذاكرة شارع بورسعيد ولكن أيضا حول السرديات التي تسيطر على فهم وتخيل القاهرة، تحديداً سردية «مصر بتاعة زمان» وسردية «مدينة المسخ» وسردية «التنوير».
فمن ناحية، يفتح المشي في القاهرة أفقا لكتابة وحكي تواريخ من الفشل والمثابرة والمقاومة، ولتذكر قصصا غير مكتملة ونهايات ليست قطعية الدلالة. فكأن المشي ممارسة نقدية ضد التاريخ الخطي التي تتسم به السرديات الوطنية والتنويرية. من ناحية أخرى يمكننا النظر للمدينة باعتبارها طبقات من الأطلال ليس بغرض النحيب على ماض جميل كما في الشعر الجاهلي أو في الأدب الرومانتيكي، أو كمصدر لنوستالجيا زائفة عن قاهرة كوزموبوليتانية جميلة ومتسامحة ومنظمة، ولكن باعتبار الأطلال مجاز لتفكيك الزمن وللتفكير في ما هو ممكن. ختاماً، نحن لا ننكر أن المدينة بالفعل قاسية- وبخاصة على النساء- ولكننا في الواقع لا نعرف المدينة لإنها ليست متاحة لأكثريتنا. يردد الكثير من أبناء الطبقة الوسطي خطاب القاهرة تقتل والقاهرة لا تتعدي الخمس أو الست أحياء على الأكثر بالنسبة لهم. جزء كبير من فكرة القاهرة تقتل ناتج من تخيل وهمي عن ما هي المدينة، وعن تصورات تعسفية تضع القاهرة تحت هالة سلبية كشيء غير مكتمل أو كمسخ قاتل. ما نقوله ببساطة هو أن أكثريتنا لا يعرف المدينة، فهي في أحيانا كثيرة محبطة وكئيبة ولكنها في أحيان أخرى مدهشة وجميلة.
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.