يبدو أن هناك هيئة عامة للفساد.. ترعاه وتحميه وتمهد له السبل وتفتح أمامه الطريق وتشق له القنوات ليسير بسهولة ويسر ودون رجفة خوف أو تردد فى الخطوات، أو حتى لحظة تشكك فى وجود عثرات، فالطريق معبد والسير فيه ممهد، والضوء الأخضر يصاحبه حتى النهاية. وكلما تمت خطوة بسلام تلتها خطوات أكبر حتى بات الأمر يحتاج بالفعل إلى التوقف لنتساءل عن هذه الهيئة بعد أن اعترفنا صاغرين بوجودها. من هو رئيسها؟! ومن هم أعضاؤها- حتى وإن كان بينهم من لا يعرفون بعضهم بعضاً- وأين تتم اجتماعاتها؟! أم أن الأمر لا يحتاج إلى اجتماعات مادام الهدف واضحا ويتحقق، وهل هناك درجات وظيفية بهذه الهيئة؟ وكيف كانوا يخططون لكل هذا الفساد، بل ينجحون فيه بتفوق؟! أم أنها مؤسسة الكل يشارك فيها بمن فيهم نحن؟! وماذا عسانا أن نفعل أكثر من أن نمسك بالقلم ونكتب وقائع محددة تنناول شخصيات ليست من نسج الخيال، ومناصب تعلن عن أصحابها، ومقاعد تدل على من يجلسون عليها، وجرائم مكتملة الأركان، وحقوقا ضائعة لا يعرف أصحابها كيف يحصلون عليها أو يصلون لها، وصفقات ومكاسب ليست فوق مستوى الشبهات، وملفات يعجز المرء عن حملها ليس لثقلها فقط ولكن لرائحتها العفنة التى تنبعث منها وتزكم الأنوف، وترسانة قوانين تقف عاجزة عن صون الحق وفرضه بقوة القانون، وأحياناً بنسيانه أو تناسيه؟! وفى ظروف أخرى يُفعل القانون- بضم الياء- وتصدر الأحكام ولكنها لا تنفذ فتبقى مجرد حبر على ورق، وهنا يخرج المنحرفون والفاسدون ألسنتهم لأصحاب الحقوق ولسان حالهم يقول ماذا فعل لكم القانون؟ ماذا جنيتم من اللجوء للمحاكم من أجل الحصول على حقوقكم ومن يعطيها لكم؟ إنكم لن تستطيعوا ولن تنجحوا، فهيئة الفساد محصنة بترسانة أخرى ليس من بينها القانون بل أحياناً يصل الفساد إلى أقصى مدى فنجد أصحاب الذمم الخربة ومنعدمى الضمير يلجأون إلى القانون فيتحصنون بثغراته ويصلون إلى أهدافهم باسمه، فهناك فساد مقنن بالقانون. الفساد يا سادة ضارب بجذوره فى الكثير من الأماكن والقطاعات والجهات والوزارات، وأول المدانين هم الصامتون عن الفساد الذين يقبلون بوضع التقارير فى الأدراج تبعاً لكلمة المسؤول الأعلى حتى إن كانوا هم ليسوا بفاسدين. الكثير يعلمون أن هناك جهات وأجهزة رقابية- وهى عديدة فى بلدنا- لديها الكثير من تقارير الفساد الخاصة بأشخاص بعينهم وهنا يحدث أمران، إما أن القائمين على هذه الأجهزة هم الذين يضعونها بأنفسهم فى الأدراج عندما يقدمها لهم المرؤوسون الذين يعملون معهم، أو أنهم يقومون بالفعل بتصعيدها وإرسالها إلى الجهات الأعلى صاحبة القرار وهنا يكون الأمر بالصمت. ويتمادى الفاسد فى فساده وينام قرير العين، فهناك فاسد أكبر يحميه ويحافظ عليه. إنه كتاب أسود كتبت وغيرى الكثير عنه، ولكنى أكتشف الآن أننا لم نلمس إلا الغلاف الخارجى وبضع صفحات، التى استطعنا الوصول إليها، وماذا تفعل إذا كنت تكتب ثم تفاجأ بتكريم الفساد وتصعيد صاحبه وكأنهم اكتشفوا كنزاً، وكأن الفساد أصبح شرطاً للاختيار، مع تكريس قاعدة اكتبوا ما تشاءون، ونحن نفعل ما نريد!! وهكذا تتسع الحلقة، وينضم إليها كثير من الفاسدين، والنتيجة ما نشاهده حالياً. والآن نطالب بمحاكمة كل من أفسد فى هذا البلد، وأهدر المال العام ونهب ثروات الشعب وأراضيه وممتلكاته، وضيع قيمه ومبادئه تحت ضوء الشمس «وعلى عينك يا تاجر»، فلم يعد هناك «تابوهات» ممنوع الاعتراف بها أو الاقتراب منها، افتحوا الملفات المغلقة والمغلق عليها داخل صناديق الأسرار، أخرجوا أى فاسد فى أى مكان، نرجوكم لا تتركوا الفساد يتحرك بحرية، ويتلاعب بالمستندات التى تدين أصحابه وينقلها أو يخفيها، تعقبوه لا تضيعوا الوقت والفرصة، كسروا أنيابه واجتثوا جذوره، اهدموا بنيانه فما زالت أساساته قائمة رغم تقويض أركانه وتعقب أذياله وفتح القليل من ملفاته، ولكنها ليست كل الملفات فما زال هناك الكثير، والخوف كل الخوف أن تضيع المعالم، وتتوه الحقيقة فى الأماكن، التى تركت فيها الأوراق نهباً لأصابع خفية كأنها خفافيش الظلام. نرجوكم حاسبوا الفساد الذى توغل وتوحش وبات يفترس حياتنا بدءاً من رغيف الخبز وحتى بيع أرض مصر، ولكن لا تحاسبوا الشعب على طيلة صمته هذه السنوات، فقد قام بدفع الثمن غالياً من صحته ورزقه وثرواته ومستقبل أبنائه، حتى كانت ثورة الشباب الذين هبوا ودفعوا عنا الثمن، الذى طال حياتهم نفسها، بعد أن أفاقوا الشعب من غيبوبته فسقطت الأقنعة وبات علينا إسقاط الهيئة العامة للفساد، وليس بعض رموزها فقط. تأملات: - قال الله تعالى فى كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً فى الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين» صدق الله العظيم. - ويقول تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً» صدق الله العظيم. - لنتأمل قول الكاتب والمفكر الإسلامى القدير الأستاذ خالد محمد خالد- رحمه الله- : «إن التجربة الإنسانية تؤكد أن أكثر الناس خوفاً وجبناً هم الجبارون، الذين يملأون قلوب الناس رعباً.. هم القساة الذين يسلبون الناس أمنهم». [email protected]