كثيرا ما ننجر، مضطرين أو غير مضطرين، إلى معارك جانبية تبدو تافهة، بالنظر إلى حجم ما يواجه الوطن من تحديات، تاركين قضايا أخرى أولى بالرعاية، فى مقدمتها قضية سيد بلال الذى راح ضحية التعذيب، والتى أعترف بأننى هممت أكثر من مرة، دون أن أفلح، بالكتابة عنها، مما يوجب الاعتذار. وسيد بلال، لمن لا يعرف، مواطن مصرى يبلغ من العمر ثلاثين عاما، متزوج وله طفل لم يتجاوز السنتين من عمره، ويمكن تلخيص قضيته على النحو التالى: 1- كان المجنى عليه متواجدا فى منزل والدته صباح يوم الأربعاء 6/1 حين اتصل به أحد ضباط مباحث أمن الدولة فى الإسكندرية، اسمه خالد شريف، لإخطاره بضرورة الحضور إلى مقر الجهاز فى شارع الفراعنة بالإسكندرية فى تمام الساعة العاشرة من مساء اليوم نفسه، فاستجاب على الفور وذهب فى الموعد المحدد. 2- فى ساعة متأخرة من مساء اليوم نفسه اتصل جيران سيد بلال بأسرته لإبلاغها بأنهم شاهدوا سيد بصحبة قوة كبيرة من الأمن جاؤوا لتفتيش منزله فى منطقة كوبرى الناموس، فتوجهت الأسرة إلى هناك لتجد محتويات الشقة فى حالة فوضى تامة بعد مغادرة الحملة لها ومعهم الابن. 3- تلقت الأسرة فى الساعة السابعة من صباح اليوم التالى اتصالا من أحد المستشفيات يفيد بوفاة ابنهم، فتوجه بعض أفرادها إلى هناك على الفور، وتبين أن اثنين مجهولى الهوية كانا قد ألقيا به وهو فى حالة سيئة جدا أمام المستشفى وسارعا بالهرب، وتوفى بعد قليل من نقله إلى المستشفى. 4- أصرت الأسرة على عدم تسلم الجثة إلا بعد حضور النيابة، وتبين أن بها آثار تعذيب واضحة، وتم تحرير بلاغ (رقم 88/إدارى لسنة 2011) وجهت فيه تهمة التعذيب المفضى إلى الموت إلى وزير الداخلية وجهاز أمن الدولة والضابط حسام الشناوى. 5- أصر الأمن على دفن الجثة فورا، وهو ما تم فعلا الساعة 11 ليلا. تشير تقارير صحفية إلى أن النائب العام أمر بالتحقيق فى القضية، وليس لدىّ علم، حتى كتابة هذه السطور، بما إذا كان سيادته قد أمر بتشريح الجثة التى دُفنت تحت الضغط والإكراه، وفقا لما ورد على لسان أقارب المجنى عليه أيضا، ولا ما إذا كان تقرير الطب الشرعى قد صدر بالفعل. ولأننى أدرك أنه ليس من اللائق توجيه الاتهام لأى جهة قبل صدور تقرير الطب الشرعى وثبوت واقعة تعرض المجنى عليه للتعذيب، فلن أجازف بذلك. غير أنه لا يوجد فى تقديرى أى عائق قانونى أو أخلاقى يحول دون البوح بشكوك تكاد تصل إلى درجة اليقين بأننا أمام حالة تعذيب جديدة أفضت إلى الموت، وبأن الفاعل ليس سوى مباحث أمن الدولة بالإسكندرية. تقلقنى بالطبع واقعة التعذيب هذه فى حد ذاتها، لكن ما أقلقنى أكثر هو الصمت النسبى الذى قوبلت به من جانب الكثيرين، والذى لا يمكن تبريره بأى حال من الأحوال. ولأن لهذه الجريمة بالذات طابعاً خاصاً يختلف عن الجرائم المماثلة التى وقعت مؤخرا، التى كانت جريمة خالد سعيد أشهرها وأكثرها إثارة لردود الأفعال، يتعين ألا نكتفى بإدانة الجهة المسؤولة عن ارتكاب فعل التعذيب، وإنما إدانة الصمت المجتمعى الذى أعقبها أيضا والبحث فى دلالاته. فالجريمة التى ارتكبت فى حق سيد بلال سياسية بامتياز، ليس فقط لأن المجنى عليه أحد النشطاء السياسيين، باعتباره عضوا فى جماعة السلفيين، ولكن أيضا لأن التعذيب الذى أفضى إلى موته وقع فى سياق البحث عن الجناة أو المشكوك فى ضلوعهم فى الجريمة الإرهابية الكبرى التى ارتكبت بمدينة الإسكندرية، مما يثير شبهات قوية حول أنه استهدف إجبار المجنى عليه على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها. ومعنى ذلك أنها قد تكون جريمة كاشفة لجريمة أكبر وهى جريمة تلفيق القضايا لأبرياء. مثير للتساؤل حقا ذلك الصمت المريب إزاء جريمة تعذيب سيد بلال، والتى لم يهتم بها عدد كبير من جماعات حقوق الإنسان ومن القوى السياسية، خاصة اليسارية منها، وأيضا معظم من ذرفوا دموع التماسيح على ضحايا الجريمة الإرهابية، لا باعتبارهم مواطنين يتعين حمايتهم، وإنما باعتبارهم أقباطا. ولأن الاتهام بالصمت يطالنا جميعنا، فيما عدا قلة قليلة، يساورنى الشك فى أن الطائفية أصبحت تسرى، بطريقة أو بأخرى، فى دمائنا جميعا، ربما دون أن ندرى أو نشعر بها!. لا أعرف لماذا تذكرت الآن رائعة الراحل الكبير إحسان عبدالقدوس «يا عزيزى كلنا لصوص»، وربما لو كان حياً لكتب رائعة جديدة، ولكن تحت عنوان: «يا عزيزى كلنا طائفيون»!.