شاء قدرى أن يلتحق ابنى الوحيد فى مدرسة بإنجلترا، وكان عمره فى ذلك الوقت اثنى عشر عاماً.. ولأنى اشترطت ألا يكون فيها تلميذ غيره يتحدث العربية، حتى أضمن ارتفاع مستواه فى اللغة الإنجليزية، اختاروا لى مدرسة «ليزرهد» فى منطقة «سارى» على بعد 50 دقيقة من لندن.. وكنت قد أعطيته سجادة وبوصلة حتى لا تفوته مواقيت الصلاة.. أى أن المدرسة عرفت أنه مسلم وقد كان هو المسلم الوحيد فيها.. ومع أنه مسلم فقد أجبروه على تعلم الدين المسيحى.. لم يخرجوه من الفصل وقت حصة الدين.. فاتصل بى ابنى منزعجاً.. كيف يدرس الدين المسيحى وهو مسلم! قلت لابنى يا ولدى لا تنزعج فدراسة الدين المسيحى مكسب لك.. مكسب أن تتعرف على الجوانب الإنسانية فيه وكيف يدعو إلى المحبة.. تعلمه كعلم ولا تعتنقه كديانة، فكم من الإنجليز يأتون إلى مصر ويتعلمون الدين الإسلامى فى الأزهر الشريف، وهم يعتنقون الديانة المسيحية. وقد فهم ابنى رسالتى وأخذ يدرس معهم الدين المسيحى.. وفجأة يدخل ابنى امتحان ال«I.G.C» ويتفوق فى مادة الدين على الطلاب المسيحيين أنفسهم ويأتى ترتيبه الأول.. ويومها أقامت له المنطقة التعليمية حفل تكريم كطالب مصرى مسلم يتفوق على الطلاب الإنجليز المسيحيين فى مادة المفروض أن يكونوا هم الأولى بهذا التفوق.. وفى الحفل وقف مدير المدرسة وهو يقول إن الطالب «حسام صبرى غنيم» مسلم بالقلب والعقيدة.. مسيحى بالعلم والثقافة. كانت سعادتى أن يفهم ابنى ما هو الدين المسيحى كعلم وكثقافة.. لقد اكتشف بنفسه وهو فى هذه السن الصغيرة أن الإيمان هو أن يتطهر الإنسان من خطاياه ويتبرأ أمام الله وينال الحياة الأبدية بالإيمان.. وربما كانت دراسة ابنى للدين المسيحى دافعاً له إلى الصلاة وقراءة المصحف ليلاً قبل النوم.. وكان يجد من زملائه المسيحيين فى القاعة التى ينامون فيها تعاوناً كبيراً.. فقد كانوا يتركونه يصلى ويقرأ القرآن ولا يقاطعه أحد.. احترموه لمواظبته على الصلاة.. مع أن الكثيرين منهم لا يواظبون على دخول كنيستهم.. هذه هى الروح الطيبة بين المسيحية والإسلام والتى يجب أن تسود فى مدارسنا.. ما الذى يمنع من تعليم الدين المسيحى لأولادنا المسلمين، وتعليم الدين الإسلامى لأولادنا المسيحيين بعد موافقة ولى الأمر على الأقل يفهمون جوانب الرحمة.. والحب والترابط. صحيح أن القضية الآن ليست قضية مسلم ومسيحى.. لكنها قضية الفتنة والإثارة التى تأتينا من الخارج بغرض التفرقة بين المسلمين والمسيحيين، لقد عز على الحاقدين أن نكون عيلة واحدة.. فصدروا الإرهاب إلينا للتفرقة بين الأديان.. حتى أصبح ما يحدث دخيلاً على مجتمعنا.. التاريخ يشهد أننا عشنا معاً على الحلوة والمرة.. جارى مسيحى وأنا مسلم يعنى عيلة واحدة نشارك بعضنا البعض الأفراح والأحزان، أولادنا معاً فى مدرسة واحدة.. لا شىء يميز أحدنا سوى مصريتنا ولهجتنا وعروبتنا.. نسيجنا نسيج واحد.. لكن ماذا نقول للأقزام الذين خرجوا من جحورهم يفرغون الحقد والغل من داخل صدورهم فى أبريائنا.. بالأمس نصبوا «الفخ» أى بثوا سمومهم القذرة داخل عبوة ناسفة للفتك والتدمير.. اختاروا بيتاً من بيوت العبادة وهم يعرفون أن هذا التوقيت مزدحم بالبشر.. يؤدون الصلوات والدعوات فى كنيسة القديسين.. يقفون بين يدى الله.. وقفة عبادة.. ومع ذلك سوّلت لهم ضمائرهم.. قتل الأبرياء وهم يتعبدون. آه لو يعرف إخواننا أقباط المهجر ما هى مشاعرنا نحو إخوانهم فى مصر.. ومشاعرنا نحوهم وهم فى مهجرهم، ما كانوا قد تفوهوا بالعبارات الجارحة ضد إخوانهم المسلمين فى مصر.. مصر لا تفرق بين مسلم أو مسيحى.. مصر تتعامل مع أبنائها بلغة العيلة.. فلماذا يصب إخواننا فى المهجر هجومهم على مصر.. وكأن مصر ليست بلدهم. لقد أعجبنى قداسة البابا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية وهو يناشد الشباب المسيحى ويطالبه بالتحلى بالحكمة حفاظاً على استقرار الوطن.. أن ينبذوا العنف.. وهو يدعو أقباط المهجر إلى الاقتداء بالكنيسة الأم. كلام رجل عاقل.. قديس يتمتع بالاحترام.. له وزنه وثقله أحبه المسلمون ورفعوه فوق الرؤوس فى مواقف كثيرة فى نجع حمادى والكشح.. والإسكندرية.. يا له من رجل عظيم يؤكد دائماً أن مصر هى مصر.. وستبقى بأبنائها صفاً واحداً.. حصناً قوياً ضد الإرهاب والحاقدين. هذه دعوة صادقة من قلب عالم محب للسلام.. من قلب البابا شنودة.. فلنستمع إليه وهو يناجى ربه فى ليلة الميلاد.. نسأل الله أن يجعله ميلاداً جديداً فى تقوية جسور المحبة بين المسلمين والمسيحيين وهم ينبذون العنف معاً.. وأن يكونوا دروعاً بشرية فى التصدى للفتنة الطائفية والعمليات الإرهابية. [email protected]